التحرك الشعبي: إصلاح اللغة والمعنى

أحمد جابر
الأحد   2019/11/24
ما تطرحه الحركة الشعبية سبق طرحه مراراً في الماضي (المدن)

فرض التحرك الشعبي إيقاعاً سريعاً على اليوميات اللبنانية، وحفلت أيامه الخاصة بمنوعات من الأفكار والشعارات والممارسات والأساليب التي باتت الحاجة ملحَّة لمراجعتها، هذا يعني أن فترة السماح التي أعطاها التحرك لنفسه قد انتهت، ونفدت معها فترة الإنقياد أو اللامبالاة أو الانبهار التي أعطاها المواكبون للتحرك، من موقع الانخراط أو المواكبة أو الترحيب من بعيد. تحديد القضايا وما علق بها، وتعيين أفق التقدم على طريق الإنجاز المطلبي، ومواجهة تسويف السلطة، بالتماسك في الشارع وخلف الشارع، كلها من الأمور التي تمسّ مصير التحرك ومستقبله، مسّاً عميقاً، وعلى حسن المعالجة أو إساءة التقدير، يتوقف نجاح التحرك الشعبي المرحلي، أو الفشل الذي إن حصل، سيدفع إمكانية النهوض الشعبي مجدداً سنوات إلى الوراء.

ثورة أم حركة شعبية
التمييز بين عنوان الثورة وعنوان الحركة الشعبية ليس تفصيلاً لغوياً، بل إن الفرق السياسي والاجتماعي يشكل الفيصل بين الظاهرتين. ثورة؟ الجواب بالنفي، فما يحصل في الشوارع اللبنانية لا يرقى إلى حدث الثورة التي هي انقلاب شامل على الوضع السياسي، وإزاحة كاملة لنظام قديم لينهض على أنقاضه نظام جديد، وتغيير جذري في شكل قوى العلاقات الاجتماعية والسياسية بين الحاكم والمحكوم. حصيلة الثورة تكون معلومة مسبقاً في برنامجها وفي أساليبها وفي هدفها النهائي، وحمْل ما يتعلق بالثورة إلى العلن تتولاه قيادة معروفة في حالات العمل العلني، أو تتولاه بيانات ممهورة بتوقيع هذه القيادة في حالات العمل السري.

باختصار، للثورة تحديداتها البرنامجية والتنظيمية والتحالفية، ولها فئاتها الاجتماعية التي تشكل النواة الصلبة التي تتحلق حولها باقي الفئات. نحتفظ بهامش للقول، إن ثورات البلدان المختلفة لم تكن متشابهة حد التطابق، لكنها كانت تتقاطع عند عدد من الأساسيات التي تشكل مضمون الثورة وتطبعها بطابعها.

في الحالة اللبنانية الراهنة، نحن أمام حركة شعبية اعتراضية. عنوان الحركة الشعبية عريض، وهو الأقرب إلى التجميع العام الذي ينتظم داخل أطره الفضفاضة أفراد ومجموعات وساحات. هذه الحركة الشعبية اعتراضية، واحتجاجية، أي هي رافضة بالاعتراض وبالاحتجاج للسياسات الرسمية، ولأداء الحاكمين، ولطريقة إدارة الاجتماع والاقتصاد، وهي رافضة أيضاً وأساساً، للطائفية والمذهبية وللنظام الذي يعلوها ويعيد إنتاج ذاته بالاستناد إلى مسوغات الطائفية، وبالاستناد إلى مجموعاتها الموزعة مذهبياً، ومحجوز على تداخلها الوطني وانتمائها الاجتماعي. حركة شعبية نعم، وإلى معنى الحركة، أو من هذا المعنى الشعبي، يمكن اشتقاق كل الأسماء التي يمكن أن تشكل مسمى للجمهور المحتج والمعترض في أكثر من مدينة لبنانية.

انتظام أم تنظيم؟
ما زالت الحركة الشعبية تنتظم في ميادين الحركة، أي تنضبط في تلبية نداء المهمات، وتلتزم بمواقيت أدائها، وتجتمع على الأساسي من المطالب وشعاراتها، وتحتفظ بمجموعاتها بفسحات حرية في ترداد بعض الشعارات الخاصة بكل منها، مضافاً إليها ما هو متفق عليه كشعارات عامة. هذا الانتظام ينفي عن الحركة الشعبية طابعها العفوي، ويلقي جانباً بتهمة الفوضى أو العشوائية التي تُرمى بها، ويلعب دوراً هاماً في "الضبط والربط" بين المجموعات العديدة. هذا الانتظام هو نوع من التنظيم الواسع غير المقيد، وهو أقرب، أو لعله انضباط طوعي يصير عند تعميمه مشهد انضباط عام "مقيد" بالتزامه الأدائي والشعاري والحركي، وبما يرتبط بكل ما ورد من أشكال وأساليب ممارسة.

هذا الانتظام ما زال خارج "التنظيم"، وهذا الأخير يرفضه أبناء الانتظام الذين هم على درجة من التنظيم حقاً، ويعلِّلون ذلك بخطورة أن يكون للحركة الشعبية قيادة، فيكتفون بأن الكل قائد في الأيام الحالية! أولئك المنتظمون غير المنظمين، يؤازرهم في حججهم صف واسع من الحزبيين الذين غادروا أحزابهم، على تعدد الأسباب، السبب الأصلي لدى أبناء الحركة الشعبية يختلف عن سبب أبناء الأحزاب الذين يحملون معهم ذكريات "القمع الداخلي" والانضباط الحديدي، ونفِّذ ثم اعترض، لذلك يظهرون تصرفات هي أقرب إلى تصرفات الذين خرجوا من الأسْرِ، فباتوا أسرى تجاربهم السابقة، وأسرى الخوف من الإقدام على المساهمة في ابتكار أساليب تنظيم جديدة، وفي ظروف جديدة.

كخلاصة، لا يمكن للحركة الشعبية أن تستمر في الانتظام من دون رفع درجة "التنظيم"، هذا أمر له ابتكاراته التي يجب أن تقدم الحركة عليها، وأن تفتح قواها البحث فيها، فالأمر المطروح هو أمر إدارة الصراع السياسي الطويل مع النظام اللبناني، وفي كل معركة طويلة يقوم التنسيق الواسع بين القوى على عملية تنظيمية، هي حصيلة توازنات وتفاهمات وبرامج حدود دنيا، بين كل مكونات الحركة الشعبية.

قديم وجديد؟
ما تقدم يطرح على المراجعة مسألة القديم والجديد. فقد يقول قائل: وكأننا نطرح على الحركة الشعبية اليوم ما كان لهذه الحركة بالأمس. هذا الكلام غير صائب. الصائب أن الحركة المطلبية السياسية اليوم تحمل ذات الطموح الذي حملته الأيام اللبنانية السابقة، وفي صلبها مواجهة النظام الطائفي، إذن، وعلى منوال من حلَّل واستنتج ودعا وعمل في السابق، ومن ضمن ظروفه ومعطياته وأفكاره المحدّدة، يجب على من يتصدى لأمور الحركة الشعبية اليوم، أن يجد مسالكه وطرقه وأساليبه وأفكاره التي يراها مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بأهدافه.

استطراداً، الفصل بين القديم والجديد ليس قضية بتر ولا قضية استنساب. هذا على صعيد التحرك الجمعي، كذلك على صعيد الأفراد. في هذا المجال، لا يستطيع المعارض اليوم أن يتصرف وكأنه ينطلق من فراغ نضالي سابق، أو من صفر مراكمة ماضيه. الأمر على العكس من ذلك، فحركة الشعب اليوم هي امتداد لحركة الشعب اللبناني بالأمس، وهي إذ تنطق بجديدها فإنها تستفيد من قديمها، بصحيحه وأخطائه. استعراض بسيط للشعارات يؤكد ذلك، فما يطرحه المعترضون اليوم عن القانون الانتخابي الجديد، وعن إلغاء الطائفية السياسية، وعن الإصلاحات الاقتصادية... وسوى ذلك، كلها من الأمور التي تضمنها ذات يوم برنامج الإصلاح الديمقراطي الذي طرحته الحركة الوطنية اللبنانية، فردَّ عليه النظام الطائفي بالحرب الأهلية، وكان ما كان... هذا على صعيد برنامجي، أما على الصعيد الفردي، فأغرب ما نسمعه في هذا المقام هو الفصل بين جيل قديم وجيل جديد شاب؟! في الردِّ على ذلك نكتفي بالقول، أن الجديد مناطه جديد الأفكار، وليس عدد السنوات أو فوارق الأعمار، وفي ظننا أن الثمانيني الذي ينزل مع الحركة الشعبية بأفكار جديدة ومع أفكار جديدة هو شاب فكرياً، وأن العشريني "السلفي"، وأياً كان مصدر سلفيته "العلمية أو الدينية" هو هَرِم فكرياً بكل المقاييس.

خلاصة الأمر، لا إقصاء بحجة الجديد الذي مقياسه العمر، ولا إسقاط أو استبعاد لتاريخ الحركة الشعبية، ولمحطاتها الغنية الحافلة، بحجة أن التجربة قد فشلت ولم تصل إلى أهدافها خلال "يومين ثوريين" وفي اليوم الثالث استراحت... أو أكلت أبنائها!

إدارة المطالب
تكثيفاً لما هو مطروح، وتلخيصاً له: تطرح الحركة الشعبية اليوم ما طرحته "جدتها" بالأمس، فما تدور حوله المجريات عنوانان: الأول هو الإصلاح الاقتصادي، والثاني هو الإصلاح السياسي. تفاصيل العنوانين تصدح بها حناجر المتظاهرين. نحن إذن إزاء عملية إصلاحية جديدة متدرجة طويلة، ومما قد يثير عدم إعجاب الثوريين، وصف ما يجري بالإصلاح. ومما يثير، ومن دون شك، هَلَعَ أركان النظام الطائفي، الذين يعرفون جيداً مغزى الإصلاح وآثاره، وما يفتح من آفاق تغييرية لاحقة. لقد تواضع "الشعبيون" السابقون فقالوا إصلاحاً، وكان الطرح يضمر طموحاً تغييرياً.. وانتبه النظام إلى المضمر التغييري فقاتل قتال المستميت.. لننتبه لنظام الواحد بالمئة، الذي سيقاتل حتى آخر طلقة أهلية.