تهافت الخرافات في ثورة الساحات

هاني حسن
الأربعاء   2019/11/13
كثيرة هي السرديّات والخرافات التي أسقطتها ثورة تشرين (علي علّوش)

بعد انقضاء قرابة الشّهر على انطلاق الانتفاضة الشّعبية في لبنان، وتطورها لثورة على امتداد الوطن، ما زال كثر من أهل السلطة والحكم، كما إعلامهم، يتخبّطون في أسئلتهم حول ما تريد هذه الثورة، مطالبينها بالقول الصريح عن مبتغاها وفاتحين لها أبواب التفاوض والمساومات ونوافذها.. وفي حيرتهم هذه المتعثّرة بعلامات استفهامها، يغفلون أو يتغافلون (وفي كلا الحالتين هم غَفَلة) أن الثورة لا تتكلّم بل تفعل وتفتعل، ولا تستجدي التغيير بل تنطلق لتصنعه على صورتها. فالثورة هذه هي بمثابة اليقظة من سبات المستسلم، وانتفاضة تنويريّة على كل منابع الظلام، الباطنيّة منها والخارجيّة.

حركة تنويريّة
في القرن الثامن عشر، وفي سياق النقاش الدائر حينها في أوروبا عن ماهية التنوير (Enlightenment)، كتب الفيلسوف الإلماني إيمانويل كانط مقالة هدفها الإجابة عن هذا التساؤل، وفيها حدّد مفهومه لفكرة التنوير وفعله بالقول أنه "خروج المرء من القصور الذي فرضه هو بنفسه على نفسه". ويضيف موضحاً بأن القصور هذا هو "عدم قدرة المرء على استخدام فهمه دون إرشاد الغير"، حيث علّته في "غياب التصميم و غياب الجرأة على استخدام الفهم" من دون إرشاد؛ وعند كانط، من أهم نتائج التنوير متى حصل هو سقوط الخرافات والسرديّات الواهمة.

انطلاقا من تعريف كانط للتنوير قد يكون من الصائب أن نقرأ انتفاضة تشرين في إحدى تجلّياتها عل أنها حركة تنويريّة لبنانيّة. إذ انطلقت من حركة تحرّر خرج عبرها اللبنانيات واللبنانيون من قصور طال عمره وثقل ظِلّه، وقرّروا الانتفاض على الإرشاد الذي كانوا قد آنسوه، فأسقطوا الكثير من الأكاذيب والخرافات.

سقطت أكذوبة أن الشعب اللبناني منقسم عاموديأ؛ سقطت خرافة أنه بطبعه شعب قبليّ طائفيّ منقسم بنفسه على نفسه.. وبانَ مرج الأكذوبة وصانعيها، الذين على مدى أعوام وعقود ما فتئوا يحضّوننا على أن نكون أكثر انفتاحاً وتقبّلاً للآخر في الوطن، ويشجّعوننا على الإنصهار الوطني، إلخ، حتى اقتنعنا تماماً أننا شعب منغلق رافض للآخر، وأننا لولاهم (صنّاع الكذب المستدام) ولولا حكمتهم لكنّا عدنا إلى الإقتتال برمشة عين. وها هي اليوم تسقط هذه الخرافات سقوط السخيف، إذ قرّر الشعب أن يخرج من ذاك القصور وعن ذاك الإرشاد، ليلاقي بعضه في الساحات والطرقات، وليسترد الوطن من براثن المنافقين والمفسدين، وليتّضح أن الإنقسام الواقعي في لبنان هو انقسام أفقي بحت. لا نقول عنه أفقي بالمعنى المادي الماركسي الخالص (وإن كان فيه بعض من أوجه ذاك الانقسام)، بل قصد القول أنه انقسام أفقي بين الشعب والطبقة المتحكّمة (وهي بالتأكيد ليست بحاكمة)، انقسام بين الشعب اللبناني المنهوب والطغمة الناهبة، بين شعب خوِّف دوماً من الويل والثبور، وبين طبقة هي نفسها مصدر هلاك الوطن وعظائم الأمور... ففي تشرين 2019 خرج الشعب اللبناني من قصوره فوجد وحدته فقوّته في وجه سلاطين القصور.

الجيل الأبهى
وفي تشرين 2019 صمّم الشعب اللبناني وتجرّأ فانكشفت كذبة أنه شعب لا يحب وطنه ولا يأبه له أو يحترمه، شعب أناني لا يهمّه إلا شخصه ومصالحه وزعاماته.. فخرجوا إلى الشوارع والساحات، وهتفوا فيها ومنها، وغضبوا وفرحوا وشتموا وغنّوا رافعين الصوت مطالبين بما هو ناجع للوطن أجمع، ساعين لمحاسبة كل من أساء وعاث فساداً في الوطن وللإطاحة بهم "كلّن يعني كلّن". اللبنانيّات واللبنانيّين اختاروا الخروج طوعاً من القصور وغصباً عن الإرشاد، فخرجوا لملاقاة بعضهم حبّاً وسنداً على امتداد الوطن.

وفي سياق هذه الثورة، لعل أبهى سقوط كان لتلك السرديّة الخرافيّة التي حيكت ورُوِيَت عن جيل الشابّات والشبّان في لبنان. كم من روايات لفّقت بحق هذا الجيل، وكم من سرديّات وصفيّة وصفته جوراً وزوراً. فقيل عنه جيل غير واع، غير مطّلع، ووصف بأنه جيل فاقد حس الاجتماع، منسلخ عن واقعه؛ وأنه جيل لا يعوّل عليه بالأفعال ولا بالأقوال، جيل ضائع، جيل تائه، جيل فاسق، جيل.. فخرج هذا الجيل بتصميم مفعم بالجرأة، خرج على قصور الأجيال السابقة له، خرج منتفضاً على سالفاته من أجيال استكانت طويلا في قصورها، ثائراً على ماض كاد أن يسلبه غده ووعده. فسقطت دفعة واحدة خرافات وأكاذيب وأوهام حيكت عن جيل الشابّات والشبّان في لبنان؛ أو بالقول الأصدق: خرجوا شابّات وشبّان لبنان لإسقاط كل الخرافات التي وضعت عنهم، خرجوا ليشاركوا في صناعة حاضر الوطن، وليحاسبوا كل من هدّد مستقبلهم فيه ومعه.

كثيرة هي السرديّات والخرافات التي أسقطتها ثورة تشرين في لبنان، وفي ظنّي أننا سنشهد على سقوط أخر غيرها.. ولا مجال  لسردها جميعها في سياق هذا المقال. إنما ما سردنا أعلاه على سبيل المثال قد يفي غرضا للإشارة أن ثورة تشرين، وبقدر ما هي ثورة اجتماعية سياسية اقتصادية شاملة، قد تكون أيضا بداية ثورة تنويريّة لبنانيّة تنتفض على إرشاد مفعم بالخرافات والترهات، وستأتي على كثير من سرديّات وأكاذيب العقود الغابرة.