"ثلاثاء الهروب": جلسة غير دستورية للبرلمان التفافاً على الثورة

إلهام برجس
الثلاثاء   2019/11/12
تأتي الجلسة خارج السياق الدستوري وبعيدة عن مطالب المواطنين (المدن)

على الرغم من اضطرار الرئيس نبيه برّي إلى إرجاء موعد الجلسة التشريعية الأولى التي كانت ستنعقد بعد استقالة الحكومة إثر ثورة 17 تشرين الأول في لبنان، من اليوم الثلاثاء 12 تشرين الثاني إلى الثلاثاء 19 تشرين الثاني.. إلا أنه شدد على بقاء جدول الأعمال نفسه.

ويكتظ جدول أعمال الجلسة بـ16 مشروعاً واقتراح قانون، من خارج السياق. أي على الضد أولاً من مطالب الشعب اللبناني التي يمكن إيجازها بثلاثة عناوين أساسية: استقالة الحكومة، تشكيل حكومة انتقالية وانتخابات مبكرة. وأيضاً، تأتي الجلسة خارج السياق الدستوري، الذي يحدد العقد الثاني من مجلس النواب، والممتد بين الثلاثاء الأول بعد 15 تشرين الأول حتى آخر السنة، لمناقشة الموازنة العامة. ففيما وقّع رئيس الجمهورية ميشال عون مرسوم إحالة مشرع قانون الموازنة إلى مجلس النواب منذ 21 تشرين الأول، يأتي جدول أعمال الجلسة الأولى منفصلاً عن الدستور وعن مطالب المواطنين.

صيغة مشوّهة
بمراجعة سريعة لجدول أعمال مجلس النواب يتبيّن أنها جلسة بمفعول رجعي. أي إنكار كامل للأولويات الواضحة التي ترفعها الثورة، والاستعاضة عنها بالاستجابة لمطالب قديمة العهد، كانت مرفوعة لسنوات عديدة بلا مجيب، لكن بصيغة مشوّهة تخدم السلطة. هكذا يظهر مثلاً اقتراح قانون العفو العام، وتعديلات في قانون الضمان الاجتماعي، وفيما يتصل بالتقاعد، كذلك تعديل يتعلق بحصانات الموظفين، وإنشاء محكمة خاصة بالجرائم المالية، وأيضاً إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وتعديلات تتعلق برتب ورواتب القضاة، بالإضافة إلى تعديلات تتعلق بقانون العقوبات، وقانون أصول المحاكمات الجزائية، وتعديل يتصل بقانون الإثراء غير المشروع، وآخر يتعلق بالمهل القضائية، وغيرها من القوانين.

وهنا، نظرة متفصحة في بعض أهم المشاريع المطروحة ضمن جدول الأعمال.

قانون العفو العام: تخريب القضاء
تعود المطالبة بإقرار قانون العفو العام لسنوات مرّت، لم يتناقص خلالها عدد نزلاء السجون الموقوفين بلا محاكمات، ولا المسجونين لعدم قدرتهم على سداد قيمة الكفالة المالية، أو حتى الملاحقين بأحكام غيابية في قضايا جنحية وغيرهم. سنوات المطالبة ووجهت بآذان صمّاء، كذا بمساومات مستمرة، لتمرير جنايات خطيرة تتعلق بأعمال الإرهاب تحت عباءة المطالب الشعبية. هذه المرة، حاجة السلطة لإصدار قانون عفو باتت ملحة، فهو بالإضافة إلى كونه محاولة لشراء صمت جزء من الشارع، بالإفراج عن أبنائه وأقاربه من دون منحهم الحق بالوصول إلى العدالة، هو أيضاً يشكل معبراً لتبرئة الفاسدين وهادري المال العام.

يعتري قانون العفو العام ثغرات كبيرة في استثناءاته، تفتح الباب أمام العفو عن جرائم مالية لا سيما"التهرب الضريبي"، وأيضاً عن الجرائم البيئية، والتي تمتلئ المحاكم بدعاوى تتصل بها، لا سيما بعد تزايد عدد مكبات النفايات منذ 2015 وإغراق البحر بالنفايات. إلى ذلك، يمرر قانون العفو هذا بين بنوده تعديل لدور محكمة التمييز، إذ يلزمها بقبول كل طلبات النقض المتصلة بالقوانين التي لا ينطبق عليها العفو، حتى ولو لم تتوفر فيها الشروط اللازمة لقبول التمييز. بهذا المعنى يلزم هذا القانون، محكمة التمييز أن تعيد فتح الملفات التي لا تستفيد من العفو، ما يشكل باباً واسعاً لتبرئة المجرمين غيرالمشمولين بالقانون، والذين تثبّت القضاء من ارتباكاتهم الجرمية. بكلام آخر، لا يتضمن قانون العفو أي استثناءات جدية عن أي نوع من الجرائم، لتصبح جميعها قابلة للشمول بالعفو، سواء عبر القضاء أم عبر أحكام القانون وثغراته. ليشكل بهذا المعنى تعطيلاً لقانون العقوبات، بدلاً من أن يكون عفواً عن جرائم بذاتها لأحداث بأثر محدد.

بعيداً عن كل التفاصيل التقنية، فإن السلطة بطرحها هذه الصيغة للعفو العام، إنما تقدّم الزبائنية على الحلول الاقتصادية، لا سيما أن مشروع العفو يطرح إعفاء مزارعي "النباتات الممنوعة" قبل 30 تشرين الأول 2019 من العقوبة. بالمقابل، يخلو جدول الأعمال من مشروع قانون "تشريع زراعة القنّب"، والذي يُعد إقراره واحدة من أدوات تحسين الواقع الإقتصادي. بهذا المعنى، تعفو السلطة عن المزارعين تبعاً لملاحقاتهم السابقة، لكنها تعاود ملاحقتهم من اليوم التالي لإقرار قانون العفو!

تعديل نظام الموظفين.. لا إضافة
المادة 61 من نظام الموظفين هي السند القانوني لتمتع الموظفين بالحصانة تجاه الملاحقات القضائية. تنص هذه المادة على أن ملاحقة موظف عام، بسبب جرم ناشئ عن وظيفته، يتطلب موافقة الإدارة التي ينتمي إليها. يأتي اقتراح النائب حسن فضل الله لانهاء أي حصانة على الموظف في حال ارتكب جرماً ناشئاً عن وظيفته، ويتيح للنيابة العامة أن تلاحقه بغض النظر عن موقف إدارته.

لكن عملياً لا يقدّم هذا القانون أي إضافة على صعيد المحاسبة المطلوبة. فهو أولاً يتعلق بالموظفين حصراً ولا يمتد إلى الوزراء. هذا مع العلم أن النائب العام التمييزي حالياً يتمتع بالصلاحية اللازمة لملاحقة موظفٍ، على الرغم من عدم منح الإذن من إدارته. وهو ما فعله القاضي غسان عويدات الاسبوع الفائت في 13 ملفاً اختارها من بين آلاف الملفات! وعلى ذكر القاضي عويدات، كيف يحل هذا التعديل -الذي يطال قانون الموظفين- معضلة هرمية النيابات العامة، التي تلزم النواب العامين الاستئنافيين بتعليمات النائب العام التمييزي بكل الأحوال؟ بالتالي ما نفع رفع الحصانات، إذا كان السير بالملاحقات معطّل في غير مكان. وها هو مثال كف يد القاضية غادة عون لم يمر عليه زمن ليُنسى بعد.

بكل الأحوال، يبقى السؤال عن حصانات النواب والرئاسات الأولى وعدم خضوعهم للقضاء العدلي إسوة بغيرهم من المواطنين والموظفين. أيضاً لا يقدّم هذا التعديل أي جديد بالنسبة للوزراء. وهم الفئة التي على الرغم من تمتعها بأقل مستوى من الحصانة القانونية، تبقى عصيّة عن الملاحقة بفعل قوة الأمر الواقع وضعف الإرادة في القضاء.

محكمة خاصة بالجرائم المالية: المتهم يقاضي نفسه!
لا يتعب الباحث بين القوانين المطروحة على جدول الأعمال قبل أن يجد ضالته لجهة الغاية من تعديل المادة 61 سابقة الذكر، والتأكد من كون هذا التعديل يتجه لتحميل صغار الموظفين أفعال الكبار منهم. بكلام آخر، ملاحقة شكلية للفساد. ذلك أن المحكمة الخاصة المقترحة، تشمل صلاحياتها الجرائم المالية المحددة في القانون الواقعة على الأموال العمومية، في حال ارتكابها من قبل أو المشاركة في ارتكابها أو التغاضي عن ارتكابها من قبل الرؤساء والوزراء والنواب ومجالس الإدارة والمجالس البلدية والموظفين والمستخدمين من الفئات الثلاث العليا في الإدارات العامة، سواء كانو في الخدمة الحالية أو سابقين. أي أن هذه المعاملة الخاصة في المثول أمام القضاء لا يلقاها كبار الموظفين الحاليين حصراً، بل كبار الموظفين السابقين، الذين باتوا بكل الأحوال خارج أي حصانة ولا مانع من خضوعهم مباشرةً للمحاكم العادية. إلى ذلك، يربط اقتراح القانون المحكمة بمجلس النواب الذي يعين أعضاءها، من دون أن يبين أي صلة بينها وبين المجلس الأعلى للقضاء، ولا بوزارة العدل. كما ينفي أي علاقة بين نيابتها العامة والنيابة العامة التمييزية. إذ يعطي النائب العام المالي التابع لها صلاحيات لا يتمتع بها نظيره في المحاكم العادية، وهي صلاحيات النائب العام التمييزي. كل هذه الأحكام التي تظهر عشوائية في سياق التنظيم القضائي اللبناني، ومنفصلة عنه، تأتي من دون أن يتضمن جدول أعمال المجلس قانون استقلالية القضاء وشفافيته، الذي يشكّل الحل الفعلي والشامل لمشكلات الملاحقة والمحاكمات الجدية، فيما يتعلق بالقضايا ذات الطابع العام والمتصلة بالسياسيين مباشرة. ما يفعله هذا القانون هو خلافاً لذلك تماماً. فهو ينشئ محكمة مرتبطة بالسلطة السياسية، من دون أي رابط مع السلطة القضائية، سوى كونها مؤلفة من القضاة، وذلك لمحاسبة القوى السياسية نفسها وموظفيها، والأهم، النواب الذين يعينوها! فمن الذي على استعداد لمحاكمة نفسه؟!

المادة 419
على ذكر استقلالية القضاء، وتلافياً لأي إجحاف بحق جدول أعمال مجلس النواب، فإنه يتضمن اقتراحاً لتعديل المادة 419 من قانون العقوبات المتعلقة بالتدخل بعمل القاضي أو التأثير عليه، وذلك بتغيير العقوبة من الغرامة حصراً إلى الحبس. فعلاً، هذا تعديل يؤسس لاستقلال القضاء، على اعتبار أن الغرامات كانت تفرض أساساً على المتدخلين، لكنها لم تجدِ نفعاً فارتأى المشرّع أن يشدد العقوبة لعلّهم يرتدعون. ببساطة، يقدّم المشرّع تعديلاً لمادة لم تطبق يوماً، ولا هي صالحة للتطبيق أصلاً، ما لم تجرِ تعديلات جذرية في أسس تكوين السلطة القضائية وعملها.

قانون إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد: حماية الزعماء
يشكل هذا القانون الضفة الثانية من تقاسم الأدوار في مسيرة مكافحة الفساد المفترضة على جدول أعمال مجلس النواب. ففيما تنشأ محكمة خاصة تلاحق قضايا الفساد المالي ترتبط بمجلس النواب. تنشأ بالمقابل هيئة لمكافحة الفساد بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء، من دون أن ينسى القانون طبعاً أن يذكر أنها "هيئة مستقلة". ولكن ما هي آخر تجربة لإنشاء هيئة مستقلة؟ إنها "الهيئة الوطنية لحقوق الانسان" والتي لم يسمَّ أعضاؤها إلا وفقاً للقاعدة الطائفية، بالإضافة إلى علامات استفهام كبيرة طرحت حول تلاعب طال بعض الأسماء، واستبعدهم لمصلحة آخرين. أما الأهم لجهة الواقع المالي الحالي، فإن تمويل هذه الهيئة يكون من خلال "موازنة سنوية خاصة، تدرج في باب خاص ضمن الموازنة العامة". كما يفتح للهيئة حساباً خاصاً لدى مصرف لبنان ويتولى رئيسها عقد نفقاتها، كما يفتح لهذه الهيئة إعتماداً إضافياً في الموازنة العامة للسنة التشغيلية الأولى، قيمته 10 مليارات ليرة لبنانية. هذا ويتقاضى رئيس وأعضاء الهيئة تعويضاً شهرياً موازياً لراتب رئيس وأعضاء المجلس الدستوري.

تلعب هذه الهيئة دوراً على صعيد الرقابة والرصد والإحالة إلى القضاء المختص، بمن فيها النيابات العامة وهيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان، من دون أن تنتج هذه الإحالة أي إلزامية على صعيد متابعة الملف.

بالنتيجة، هذه بعض القوانين المطروحة على جدول أعمال مجلس النواب يوم الثلاثاء، والتي تبين كيف تحاول السلطة الالتفاف على مطالب الشعب، بتمرير قوانين تحمي كبار الموظفين وتحيّد مصالح المسؤولين عن العقاب والملاحقة، فيما تهدر الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وتحاول غش الرأي العام بعناوين رنانة، مضمونها يقع في مصلحة الزعماء حصراً.

إنشاء نظام التقاعد: بعض الإيجابية
يوحي عنوان مشروع قانون تعديل أحكام قانون الضمان الاجتماعي "إنشاء نظام تقاعدي" أنه يرمي إلى الانتقال نحو "الحماية الاجتماعية" لكبار السن. لكن، كيف لسلطة تهوّل بإفلاسها يومياً أن تؤدي هكذا مهمة؟ الإجابة تكمن في التفاصيل. إذ لا يغير اقتراح التعديل هذا مقدار أنملة في فلسفة التغطية الاجتماعية بمنظور الدولة. فهذه التغطية لا تزال حصراً للموظفين بدوام كامل، ولما يزيد عن 20 سنة في الخدمة المسجلة لدى صندوق الضمان. مساهمة الدولة في تمويل صندوق التقاعد الذي سيحل محل صندوق نهاية الخدمة، بعد تصفية حسابات الأخير، هي 0,45 في المئة فقط، تؤمن بموجب الموازنة العامة. أما لجهة باقي مصادر التمويل فهي تقوم بشكل أساسي على الأجير نفسه، ضمن نسب تصاعدية تبعاً لمدخوله. الأهم هنا، أن القانون يىتيح إمكانية تعديل هذه النسب بمراسيم تصدر عن مجلس النواب. أي أن مشروع القانون هذا، يتطلع لمنح مجلس الوزراء صلاحية لتعديل بعض بنود هذا القانون، لناحية مصادر تمويل الصندوق. غير ذلك، لا بد النظر بعين ايجابية إلى الضمانات الجلّة التي يقدّمها القانون للمضمونين المتقاعدين، تحديداً لجهة نفيه أي إمكانية لتدني قيمة المعاش التقاعدي عن 180,000 ل.ل. أي ما يعادل تقريباً مئة دولار أميركي، في حال حافظت العملة الببنانية على سعر صرفها الحالي.