طبقة التماسيح

جهاد بزي
الأربعاء   2019/10/23
برودة دم هذه الطبقة السياسية قد تكون وحدها سبباً كافياً في اندلاع ثورة (مصطفى جمال الدين)

للبنانيين أسبابهم التي لن تعد ولن تحصى لانفجارهم الأخير. لكن أمراً آخر يمكن إضافته إلى اللائحة الطويلة، هو برودة دم هذه الطبقة السياسية، التي قد تكون وحدها سبباً في اندلاع ثورة.

الطبيعة لاعبة حكيمة لكن ساخرة، وهي إذ انتقت بعناية هذه المجموعة الغرائبية من الكائنات لتتولى أمرنا فلا شك لغاية في نفسها الكريمة.

كأنها تمازح اللبنانيين لكنها تجربهم في الوقت نفسه، تجرب قدرتهم على الصبر والتحمل.

ليست صدفة أن يكونوا على هذه الدرجة من التطابق شكلاً ومضموناً. الوجوه اللامعة نفسها والابتسامات الزائفة نفسها واللغة المكررة المنقولة من فم إلى فم، ما أن يقفوا أمام كاميرا حتى يتلونها بآلية الدمى حين نضغط على بطنها، بآلية من يتلو "سقف بيتي حديد ركن بيتي حجر". جلد واحد يكسوها من أفضل أنواع جلد التماسيح.

تماسيح. واللبنانيون نزلوا إلى التظاهرات فرادى لا ليشتموا فحسب، بل ليعيدوا على مسامع هؤلاء ما يعرفونه، وهو أنهم فشلوا في مهمتهم وأن وجودهم كما دمهم بات ثقيلاً، وأن عليهم أن يفسحوا المجال للبديل حتى ولو كان الفوضى. الواقفون في الساحات ثاروا، أول ما ثاروا، على من يظن نفسه زعيمهم المباشر. قالوا له إنه لن يعرف ما الذي يجري خلف أبواب بيوتهم الموصدة على حيائهم، الذي يمنعهم من أن يشكو لغير ربهم. قالوا له إنه بات أبعد من أن يسمع أنينهم المكبوت، وأنه محاط بمن يشبهه، وأن الانتماء الطائفي لا يكفي لأقل الأمان الاجتماعي، للضروريات التي يحتاجها العادي كي يشعر أنه يقف على أرض صلبة. قالوا له إنه عاجز عن سماع صوتهم، وعاجز عن إيجاد حلٍ، لأنه يرى نفسه غير معني بإيجاد حلول. قالوا له إنه قاصر عن إداء وظيفته الوحيدة كمسؤول، وإنه يظن السياسة هي فن مناكفة الأطراف الأخرى، وانتزاع ما أمكن من غنائم في البلد، الذي لا يرى فيه السياسيون بلدهم بل أرضاً عدوة سقطت تحت أيديهم، وواجبهم أن يغنموا ما استطاعوا منها، بشراً وحجراً.

ثم أنهم ثاروا على هذا التشابه المقيت بين سياسييهم في قلة الحيلة من جهة، وفي الانتهازية والجشع والمهارة في اقتناص الفرائس من جهة ثانية. المتظاهرون قالوا للسياسيين إنهم يلتهمون لبنان بلا هوادة. يلتهمونهم. يلتهمون حاضرهم ومستقبلهم وغد أولادهم. يلتهمون أقل حقوقهم بالتعليم والطبابة والهواء والماء والشارع النظيفين. أقل حقوقهم بالطمأنينة. يعيدونهم إلى ماض سحيق يفترض بلبنان أن يكون قد تخطاه قبل عقود. يعيدونهم إلى بديهيات مثل سعر الدواء والكهرباء ووسائل النقل العام والاهتمام بالنفايات وليس تحويلها إلى جبال. بديهيات! لا تعرفها الزواحف ذوات الدم البارد. 

والمتظاهرون، إذ يثورون عليهم كلهم، فلاستعادة الثقة بمواطنيتهم أولاً. المواطنة التي لطالما سلبت منهم، لأن سياسيي لبنان أجادوا توضيب اللبنانيين في طوائف وفي كهوف مغلقة عليهم، وحدهم يحرسون أبوابها، ووحدهم يفتحونها حين يحتاجون إلى قطعان. المواطن العادي خرج أخيراً من القطيع. حمل رأيه ونزل به إلى التظاهرة ليحكي باسمه فقط. ليقول إنه يمكن للناس أن تحكم نفسها بنفسها ما دامت جربت هؤلاء وفشلوا مرة بعد مرة. وأي سيء لن يكون أسوأ من هؤلاء وثقل دمهم الذي جاء الرد على ثقله بثورة تطوف فرحاً وألواناً وخفة دم. ثورة تعيد للمرة الأولى في تاريخ لبنان المعنى للعلم اللبناني والمعنى لنشيد البلاد الوطني وللمواطن العادي نفسه، المجهول الإقامة، المعروف المصير. ثورة تعيد المعنى للشتيمة كموقف سياسي، كمحاولة للخلاص.

كلّن يعني كلّن. أي من الكلمتين في هذه العبارة لا يفهمها سياسيو لبنان؟ هي بسيطة ومفهومة تماماً. الأرجح أن كل واحد فيهم يرميها على الآخر ويلوذ بمتطرفيه ليبرر مشروعيته. كل واحد فيهم يلوذ الآن بجلد التمساح ليقيه رجع صدى الصوت الذي بات عالياً وبات يصل إليه. كلكم يعني كلكم. لكنها طبقة من التماسيح تامة ونهائية هذه التي اتحفتنا بها الطبيعة، لا فرق بين تمساح وتمساح إلا بسماكة الجلد.

لكنها  جولة أولى ناجحة ضد كل هذه التماسيح.