حسن نصرالله.. نهاية الدولة الوطنية

يوسف بزي
الإثنين   2019/01/28
كل جماعة إثنية أو طائفية أو مذهبية، تطمح اليوم بإيجاد حسن نصراللهها (الإنترنت)
لو تحدث بشار الأسد بالكلام نفسه الذي قاله حسن نصرالله، لبدا صلفاً وغير واقعي، بل وكاذب. ولو قاله قاسم سليماني أو حتى الرئيس حسن روحاني، لوقعت تصريحاتهما على معنى عدواني ووقح ومتبجح. لكن أن ينطق به الأمين العام لـ"حزب الله"، فهذا ما يمنحه صدقية معنوية ودقة سياسية وفاعلية شعبية. وهذا ليس سحراً شخصياً (كاريزما)، ولا مهارة لغوية وحسب، بقدر ما هو جدارة "المنتصر" وطمأنينته.

خير وشر
ما يتفوه به نصرالله، في قراءته ورأيه وموقفه مما يحدث أو سيحدث، من أفغانستان إلى داخل إيران مروراً بالعراق وتركيا وروسيا وسوريا وإسرائيل وغزة واليمن والبحرين والسعودية والإمارات، وصولاً إلى أزقة بيروت (وصالوناتها)، وبغض النظر عن أي اختلاف أو مخاصمة ومعارضة (واجبة)، يتصف بتماسك مقنع، ووضوح مقبول. هذا من خصال الانسجام مع الذات في المعتقد والممارسة، خيراً وشراً، ضغينة ووداً، قسوة وعطفاً، سياسة وأيديولوجيا. رجل يتصف بقدرة على ممارسة العنف المنظم إلى أبعد حد، وعلى معاقرة السياسة بمنتهى الدبلوماسية والكياسة. الأمور إلى أقصاها ونهاياتها، حرباً أو تفاوضاً، عداوة أو تحالفاً. السمة الدينية لشخصه تغذي رؤيته للعالم على هذا المنوال، بترجمة أرقى لعبارة "الفسطاطين" وأكثر باطنية.

قوة كلام نصرالله، متأتية أيضاً من تهافت خطاب خصومه وأعدائه. بمعنى آخر، يخاطب في المواطنين العرب ما هم محرومون منه، أي أن يتحادث معهم رئيس دولتهم ويفاتحهم ويشاركهم السياسة والخطط والطموحات والمشاريع وخبايا الحروب السرية وحسابات المصالح وصياغة الرأي والقرار. ما من رئيس عربي يتنازل ويجلس ويفاتح مواطنيه بما حدث ويحدث وبما يجب فعله. بل أن الإسرائيليين أنفسهم يجدون أن سياسييهم المنتخبين لا يصارحونهم بقدر ما يكشفه لهم نصرالله.

مرشد الجمهورية
مقدرة نصرالله على "المكاشفة"، حتى عندما يطمس حقيقة أو يحتفظ بأسرار، مصدرها من موقعه فوق اعتبارات الدولة وأجهزتها وتقييداتها الحقوقية والسيادية. لذا، لا الإيرانيون ولا رجالات النظام السوري يستطيعون التحدث بأريحية كما قائد حزب الله، أو كما قال ضاحكاً (هازئاً) "مرشد الجمهورية اللبنانية". فالرجل "متحرر" من هكذا التزام دولتي أو حدودي.

انتصاره الفعلي، هو رسوخ نموذجه: ما بعد الدولة الوطنية، وعلى أنقاضها. ليس في لبنان وحسب، بل على امتداد المشرق العربي وأبعد، من طالبان أفغانستان إلى حوثيي اليمن. لقد توضح في الحرب السورية ليس التفوق العسكري لمقاتلي الحزب، بل تهافت الدولة السورية وجيشها. وترتب على هذا، أن بشار الأسد بات أقل مكانة من نصرالله في ترسيمة "محور الممانعة". قبل ذلك، وابتداء من 12 تموز 2006، توقفت الجمهورية اللبنانية صيغة ووجهة ونظاماً عند إرادة حسن نصرالله شخصياً، ليس فقط حرباً أو سلماً، إنما أيضاً في آلية إنتاج السلطة كما في صوغ العقيدة السياسية للدولة. هو داخلها وخارجها في آن معاً. لبنان هو الفرع المحلي لـ"شركة عملاقة" يديرها جهاز حزب الله وقائده.

هذا النموذج صار معمماً، وإن كانت النسخ الأخرى ليست متشابهة تماماً أو أقل نجاحاً وقوة. تجربة طالبان هي الأعنف. ميليشيات "الحشد الشعبي" هي الأقرب. "الحوثيون" يسعون إلى توطيده في أي تسوية سياسية. "حماس" في غزة تطمح إلى الاعتراف بواقعها هذا في أي اتفاق مع السلطة. حتى أكراد سوريا ينتهجون الدرب نفسه.. كذلك جبهة النصرة في شمال غرب سوريا.

ما يقدمه حسن نصرالله، هو شكل جديد لا علاقة له بالدولة الوطنية ولا حتى بمشاريع الوحدة القومية. وهو التعبير التام على ضيق الجماعات التاريخي من فشل الأنظمة واستعصاء التسويات الأهلية ولا مشروعية الكيانات السياسية. إن كل جماعة إثنية أو طائفية أو مذهبية، تطمح اليوم بإيجاد حسن نصراللهها، الخاص بها، اللصيق بهويتها والمعبر عن مكبوتها المضني وثاراتها المؤجلة.

سلوك إمبريالي
ومآل جاذبية هذا النموذج هو صعود المشروع الامبراطوري. وعلى عكس ما يظن البعض، هو ليس مشروعاً "قومياً" إيرانياً، رغم مركزية إيران فيه. في التصور الامبراطوري "لا فرق بين عربي وأعجمي". ونجد ذلك في مكانة حسن نصرالله وحزبه ضمن "النظام الإيراني" وجهازه الحرسي، الأقوى من "الجمهورية" ورئيسها ووزرائها.

إن اليمن والبحرين وسوريا ولبنان والعراق وفلسطين..إلخ، في عقل نصرالله وتعبيراته، هي كلها على السوية نفسها من الترابط والتورط. سلوك امبراطوري (إمبريالي) صريح. وهذه الامبراطورية ليست بالضرورة أن تتجسد كياناً توحيدياً وسلطانياً، فهي (وفق المثال اللبناني) طرائق هيمنة ووصاية وسلاح ودويلات متنصلة من أعباء "الدولة" وإداراتها، ومتنفذة فيها في آن واحد. وهذه كلها تقوم على دوام الحرب ودوام انتظارها ودوام أسبابها.

في نهاية المطاف، ليس مبالغة القول أن انتصار حسن نصرالله طوى قرن سايكس بيكو.