مالية الدولة بمأزق جديد: العودة إلى اللاموازنة

أكرم حمدان
الخميس   2019/01/24
كل الحلول المطروحة مخالفة للدستور (موقع المجلس النيابي)

يبدو أن البلاد ستواجه خلال الأيام القليلة المقبلة، تكرار سيناريو غياب الموازنة العامة، الذي استمرنحو 11 عاماً، إلى حين إقرار موازنة العام 2018، تحت ضغط المطالب الدولية ومتطلبات مؤتمر سيدر. وهذا المؤشر تزداد نسبته، كلما تأخر تشكيل الحكومة العتيدة، التي بات يصح فيها القول "هبة باردة وهبة ساخنة". فمرة تقترب ولادتها من توقيع المراسيم، ومرة أخرى تنام في سبات عميق.

وكعادته، مهندس اللعبة الداخلية وضابط إيقاعها،رئيس مجلس النواب نبيه بري، يُحاول استباق غيره في طرح الاحتمالات والخيارات، التي يُفترض اللجوء إليها، خصوصاً بعد صدور التقارير المتعلقة بتصنيف لبنان اقتصادياً ومالياً. فبعدما "نبش" منذ فترة اجتهاداً يعود لأكثر من خمسين سنة، لحل مشكلة الموازنة بوجود حكومة تصريف الأعمال، ها هو اليوم يُكرر أمام النواب، خلال لقاء الأربعاء النيابي المطالبة، إن لم تتشكل الحكومة الجديدة، بعقد جلسة لحكومة تصريف الأعمال، من أجل تحويل الموزانة إلى لمجلس النيابي، مشيراً إلى أنه سيدعو أيضا إلى جلسات تشريعية متتالية.

الخيارات المتاحة
يقول النواب الذين شاركوا في اللقاء، بأن الهاجس الأساسي، الذي طرحه وزير المالية علي حسن خليل، هو كيفية حل مشكلة الصرف والجباية بعد تاريخ 31 كانون الثاني 2019، في ظل غياب الموازنة الجديدة. أي حين انتهاء مفعول القاعدة الإثني عشرية، الواردة في المادة 86 من الدستور، في فقرتها الثانية. وبالتالي، العودة إلى الدوامة التي عاشتها البلاد من العام 2006 حتى العام 2017، بلا موازنة، والصرف المخالف للدستور برأي الغالبية، تحت عنوان "تسيير المرفق العام وشوؤن البلاد والعباد".

وقد طرح خلال النقاش، في مجلس عين التينة، خيارات عديدة، أهمها وأولها الإسراع في تشكيل الحكومة العتيدة، التي سيكون أولى مهامها بعيد البيان الوزاري ونيل الثقة، إعداد الموازنة وإحالتها إلى مجلس النواب. أما الخيار الثاني فكان إعداد مشروع من قبل وزير المال، ورفعه إلى رئيس الحكومة، في مسعى ومحاولة لإقراره من قبل الحكومة. وهو أمر مستبعد لأنه يُعوّم الحكومة. وهذا مرفوض من قبل فريق رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والتيار الوطني الحر. أما الخيار الثالث والأخير وربما الأقرب إلى التطبيق فهو، كما نقل بعض النواب، إعداد إقتراح قانون من قبل النواب، وطرحه بصيغة المعجل المكرر على جدول جلسة تشريعية "للضرورة"، يُجيز للحكومة استمرار الصرف على القاعدة الإثني عشرية، لحين إقرار الموازنة الجديدة.

مخالفة الدستور
إلا أن هذا الطرح، الذي رأي فيه بعض النواب أنه الأقرب لحل المشكلة، لأنه حتى لو تشكلت الحكومة الجديدة، فلن تستطيع إنجاز الموازنة في هذه الفترة الزمنية المتبقية، أي حتى نهاية الشهر الحالي.. قد يكون مخالفاً للدستور، وفقاً لتجارب سابقة.

فقد خالف مجلس الوزراء، في جلسة له في 8 شباط 2018، الدستور بشكل واضح، من خلال إقراره الصرف العام على قاعدة الإثني عشرية، ريثما يتم إقرار الموازنة العامة للعام 2018.
وتجاهل حينها بقراره هذا المعايير الدستورية. إذ أن المادة 83 من الدستور تنص على أنه في العقد الإستثنائي تجبى الضرائب والتكاليف والرسوم والعائدات الأخرى، كما في السابق، وتؤخذ ميزانية السنة السابقة أساساً، ويضاف إليها ما فتح من اعتمادات إضافية دائمة، ويحذف منها ما أسقط من اعتمادات دائمة. وتأخذ الحكومة نفقات شهر كانون الثاني من السنة الجديدة، ما يعني أن القاعدة الإثني عشرية تطبق لشهر واحد فقط، وليس أكثر. في حين أن الصرف وفق هذه القاعدة لأكثر من شهر، في غياب الموازنة، هو أمر مخالف للدستور.
كما تجاهل مجلس الوزراء حينها أيضاً الحكم الصادر عن المجلس الدستوري في أيلول 2017، والقاضي بإبطال القانون رقم 45 المتعلق بالضرائب. فالحكم يجزم في مادته الثانية عدم دستورية الإنفاق العام وفق القاعدة الإثني عشرية لأكثر من شهر واحد، ما يعني أن إنفاق السلطة خلال 11 عاماً الماضية، بلا موازنة، ليس له أي سند قانوني، بل مخالف للدستور. وهي الآن تتجه لتكرار التجربة. ويورد المجلس الدستوري في حكمه أنه "لولا الإذن الاستثنائي لما أجيز للدولة القيام بالجباية خلال شهر واحد (القاعدة الإثني عشرية)، وهذه القاعدة صالحة لشهر واحد فقط، وهي مرتبطة بالدعوة إلى عقد استثنائي من أجل إقرار الموازنة .

كذلك فإن رئيس لجنة المال والموازنة النائب إبراهيم كنعان كان أعلن، في تصريح له في 8 شباط 2018،​ بعد اجتماع للجنة​، عرضت فيه مراحل إنجاز موازنة 2018، أن "تخطي شهر كانون الثاني لإقرار الصرف، على أساس قاعدة الإثني عشرية، مخالفة دستورية للمادة 86  من الدستور ولا سيما الفقرة 2 منها".

لا لتعويم الحكومة
بما أن المادة 86 من الدستور نصت على إرسال مجلس الوزراء مشروع الموازنة إلى مجلس النواب، قبل بداية عقده الثاني بخمسة عشر يوماً على الأقل، لكي تتمكن من إصدار الموازنة بمرسوم، إذا لم تقر في مجلس النواب قبل نهاية شهر كانون الثاني، وبما أن هذا الإجراء لم يحصل وهناك ما يسمى "تسيير المرفق العام raison d’etat "، اختلفت آراء النواب والكتل بين السياسي والدستوري، في مقاربة هذا الملف.

ففي حين رجح عضو كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب علي فياض في حديث لـ"المدن" أن يكون الحل الأنسب في اقتراح قانون نيابي، على الرغم من المحاذير السابقة لاعتبار تمديد المهل وتجاوز تاريخ نهاية كانون الثاني فيه مخالفة دستورية، رجح أيضاً لـ"المدن" عضو كتلة "التنمية والتحرير" النائب قاسم هاشم أن يكون المخرج باقتراح القانون، حتى لو شكلت الحكومة الجديدة، نظراً لعامل الوقت الداهم.

أما عضو تكتل لبنان القوي النائب آلان عون فقد أشار لـ"المدن" إلى أن "المتاح هو مبدأ تسيير المرفق العام، وأي صيغة تخالف النص الدستوري ليست حلاً، حتى لو جاءت بموجب قانون، لأن الدستور أسمى وأعلى من القانون. كذلك فإن تعويم الحكومة غير مطروح ولا نسير به لأنه سيفتح أبواباً لأمور أخرى غير الموازنة".

عضو "اللقاء الديموقراطي" النائب بلال عبدالله أبلغ "المدن" أن "النقاش حول هذا الأمر يدفع نحو تشكيل الحكومة. ونحن نرى أن تسيير أمور الناس والمرفق العام أهم من النصوص والأعراف. فإذا لم تتشكل الحكومة لا مانع من السير بإقتراح قانون معجل مكرر، يعالج هذا الأمرن لأن السؤال الأهم :هل هناك من يستطيع أن يتحمل تبعات توقف رواتب الموظفين وتسيير شؤون الناس؟".

أما النائب فؤاد مخزومي فيرى أن الحل سيكون من خلال تسيير المرفق العام، لأن لا أحد من الأطراف يريد أن يعطي الآخر ما يعتبره مكتسباته في الموقع والمكانة التي يشغلها، وتسير الأمور إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.

في المحصلة، سيبقى البلد يدور في دوامة ما بين الدستور والعرف والصلاحيات. ويتمترس كل فريق من أفرقاء السلطة وراء مصالحه، بحجة حماية مصلحة المواطن ومصلحة البلد.