خلوات الطوائف وخوافها.. أو أفول "العهد"

منير الربيع
الجمعة   2019/01/18
شهد لبنان طوال الأيام السابقة، جملة لقاءات واجتماعات طائفية السمة (المدن)

يعمّ الشعور بالخطورة على الصيغة اللبنانية، من قبل مختلف الأفرقاء. الجميع يتحسس المخاطر ويهجس بها. والشعور بالخطر هذا، لا يعبّر عن نفسه بسياق وطني أو إصلاحي، بل يعزز الخوف الطوائفي، من إعادة طرح قسمة جديدة لجبنة تركيبة النظام.

اجتماع الملّة
لذلك، شهد لبنان طوال الأيام السابقة، جملة لقاءات واجتماعات طائفية السمة، متوجسة من هذه المخاطر. قد يجتمع المسيحيون والسنّة والدروز بدافع الحفاظ على الثوابت القائمة منذ ميثاق 1943، والمتعززة في اتفاق الطائف. وهم يخشون في الوقت عينه من رغبة "باطنية" شيعية في إحداث تغيير على هذه التركيبة، لتصبح متلائمة مع ما يناسب حجم الشيعة وتعاظم دورهم، بعد تحولات كثيرة، خاضوا خلالها معارك جمّة. وهم (الشيعة) يتوقعون، بداهة، ما يكافئ وزنهم و"تضحياتهم"، من خلال تثبيت حضورهم وتعزيزه في التركيبة.

غالباً، ما تتخذ اللقاءات الطوائفية من حدث (تفصيلي، أو هامشي وعابر) سبباً لتعقد خلواتها، وتبحث في الأفق والمصير وفقاً لما تنبئ به التحولات. هذا ما فرض على كلّ ملّة، منذ أيام، أن تنعقد على نفسها وتبحث في مصائرها.

على هذا المنوال، اتخذ الشيعة من دعوة ليبيا إلى الجامعة العربية حجّة لعقد مجمعهم. وهو ما فهمته الجماعات الأخرى أن "المسألة الليبية" تمويه وذريعة، وأن الحافز الأصلي متصل بالأزمة السياسية المستفحلة، التي قد تؤسس وتفرض قواعد جديدة في النظام. وهكذا، سارع لقاء الساسة الموارنة إلى الردّ على هذه الفرضية، رافعين "لا" قاطعة، بمواجهة محاولات تكريس أعراف جديدة في التركيبة اللبنانية.

الثلث والموارنة
المشكلة عند الموارنة لها أكثر من معنى وتفسير، حاجة "العهد" إلى الدعم المسيحي والكنسي، وتثبيت منطق المناصفة خوفاً من المثالثة. وتحت هذا السقف، تتعدد المطالبات من قبل القوى المتضاربة مارونياً، لتعزيز كل طرف لحصّته. وقد كشف سليمان فرنجية حقيقة المشكلة، وربما يكون هنا قد تحدّث بلسان حزب الله، الذي لا يريد منح "التيار الوطني الحرّ" الثلث المعطّل. وبالتالي، أكّد فرنجية أن أصل المشكلة هو الخلاف المسيحي مع الحزب. وردُّ التيار عليه كان مؤكِدّاً لوجهة النظر هذه، بإصراره على تحصيل ثلث الوزراء. عندما طرح جبران باسيل شعار: الثلث للمسيحيين، ومن لا يوافق على ذلك لا يكون مسيحياً. رفض القادة الآخرون هذا المنطق، واعتبروا الثلث عونياً وليس مسيحياً.

كان باسيل يحاول كسب الدعم من بكركي، لكن الموقف كان مغايراً، خصوصاً أنه وجد تكتلاً في وجهه، يرفض التسليم له بأعراف جديدة، أراد تكريسها بمواجهة الأعراف التي يبتدعها حزب الله. فتمسك المسيحيون الباقون بالطائف، والدستور، وليس بتكريس عرف مسيحي جديد، يشكّل عملية التفاف على هذا الدستور. بنظر البعض، فإن اللقاء يمثّل صورة أساسية على انتهاء عهد ميشال عون، أو نظرية "الرئيس القوي". ولو لم يكن كذلك، لما احتاجت الكنيسة إلى دعوة القادة والسياسيين الموارنة، ولما حاول المحسوبون على العهد أن يضعوا اللقاء في خانة دعم الرئيس وتوجهاته.

الوزير السني
على الضفّة السنّية، استبق السنّة تخوفهم منذ ما قبل نتائج الانتخابات النيابية، وأيقن الرئيس سعد الحريري أن هناك محاولة لخلق ثنائية سنّية، هدفها خرق بيئته وحجب تسيّده عليها. وهذا، تُرجم في عملية تشكيل الحكومة، من خلال فرض وزير سنّي من الخارجين على تيار المستقبل. يواجه الحريري ذلك في طلب الحماية من رئيس الجمهورية، متنازلاً له عن بعض الصلاحيات، راضياً بمنحه الثلث المعطّل. لكن الردّ يأتي سريعاً عليه، إن أراد منح الثلث المعطّل لعون، فعليه التنازل عن وزير سنّي من حصته لصالح سنة 8 آذار. وبالتالي المقصود هو منع أي طرف من الإخلال بما يريد حزب الله تكريسه، في لعبة توزيع الأدوار على مختلف القوى.

ثوابت الدروز
الدروز أيضاً تحسسّوا بعضاً من الخطر الداهم عليهم. يتمسكون بالطائف، وبالتركيبة القائمة، لا خيار أمامهم سوى إعلان الثبات على الثوابت، لمواجهة أي محاولات جديدة، تفرض تحوّلات في التوازنات السياسية والبيئات الطائفية. بدأ استشعار هذا الخطر من خلال محاولة استيلاد جبهة درزية معارضة للمختارة. وبدأت تلعب على وتر زرع الشقاق في مشيخة العقل، واستهداف الأوقاف. هذه الأخطار حّتمت عقد لقاء المجلس المذهبي. وكان الردّ من جنبلاط (على طريقته) على كل الرسائل التهديدية السورية، بأن اجتمع بسفراء دول الخليج للتأكيد على عروبة الدروز وعمقهم التاريخي.

ثنائية الحريري - عون
المعادلة التي يريد البعض إرساءها، أوضحها الحريري بشكل لا لبس فيه، حين تحدّث عن التحالف بينه وبين التيار الوطني الحرّ، وغايته الإشارة إلى تعزيز هذه الثنائية، لمواجهة صيغة المثالثة. ولكن هل سيكون بإمكان ثنائية الحريري عون، إعادة التوازن في لبنان، على صعيد المؤسسات؟ بلا شك، أن لعب هذا الدور سيكون صعباً ومكلفاً، لكنه أيضاً إذا ما حصل، سيمثّل رمزية تاريخية تؤسس لمرحلة جديدة من تاريخ لبنان. تسليم الحريري لعون بأحقية الحصول على الثلث المعطّل، يمكنها الإشارة إلى عمق التحالف السياسي بينهما، على قاعدة تحولهما بدلاً من الاستمرار في سياسة التبعية للحزب، إلى قطبين أساسيين في التركيبة السياسية، يوازيان بها القطبية الشيعية التي فرضها حزب الله.

هناك مصلحة تجمع ما بين الحريري وعون عند هذه النقطة، خصوصاً أن العهد ينحدر إلى هاوية التعطيل والعرقلة. فرملة هذا الإنحدار، يعتبرها بعض المتحمسين لهذا التحالف، أنها ستؤسس للجم جموح حزب الله، المتحكم بإدارة الدولة وإدارة البلد. لا بديل أمام الحريري وعون عن هذا السياق، سوى الاستمرار في التبعية، والسير في خيارات تمثّل المزيد من التدهور. الموقف يحتاج إلى جرأة سياسية، تتخطّى كل الحسابات الآنية والمصلحية، وتنتظر لحظة ما تجتمع فيها قوى طائفية وحزبية متعددة، وعلى تقاطع المصالح في ما بينها، لمواجهة أي محاولة لتحجيمها، كما لمواجهة أي محاولة لـ"مؤتمر تأسيسي" جديد.

حزب الله والطبقة الفاسدة
إذا ما بقي المسار على حاله، فهو سيوصل إلى خلاصة واحدة: توجيه الاتهام في تدهور حال البلاد إلى كل القوى الأخرى غير الحزب. فسيدخل هؤلاء في سوق الاتهامات بالفساد بحق بعضهم البعض، يحمّل الحريري مسؤولية التدهور الاقتصادي، بينما يتحمّل برّي وباسيل وجنبلاط مسؤولية الفساد. وبالتالي لا بد لهؤلاء من اتخاذ خطوة دفاعية، تحتاج إلى جرأة، تضع حزب الله أمام تحمّل المسؤولية. ما يجري حالياً، هو التحضير لمرحلة جديدة ترتكز على أن تدهور الوضع في البلد هو نتاج هذه الطبقة الفاسدة، والتي سيكون حزب الله قادراً على الوقوف خارجها، والقادر على إسداء النصائح لها، طالما أنه بعيد عن أي اتهام بالفساد أو التورط في التفاصيل اللبنانية، لاهتماماته الاستراتيجية بشكل دائم.