مكافحة الفساد على رفّ الميثاقية إلى جانب الغاء الطائفية

وليد حسين
الأحد   2018/08/19
تجنّد جميع أركان الدولة لشن حرب على الفساد (علي علوش)

لم تعد مقولة "محاربة الفساد" حكراً على المجموعات المدنية والناشطين المتحمّسين للقضاء "على السلطة الفاسدة". ها هي القوى السياسية، جميعها، ترطن بمكافحة الفساد. ففي الثلاثة أشهر الماضية التي تلت الانتخابات النيابية لم يبق أيّ من المسؤولين السياسيين، بمن فيهم الغارقون في الفساد حتى النخاع، إلا وأعلن ضرورة محاربة الفساد. حتى أنّ الدعوات إلى تسريع عملية تأليف الحكومة التي صدرت من جميع الافرقاء السياسيين أُرفقت بتحذيرات من الاوضاع الاقتصادية الصعبة التي تواجه لبنان والتي تحتاج إلى حكومة لمواجهة التحديات، وعلى رأسها مكافحة الفساد.

وللبنان باع طويل في فساد سياسيّيه وفي التصدي لهم من قبل سياسيين آخرين لا يقلّون عنهم فساداً. فسقوط عهد الرئيس الراحل بشارة الخوري بعد ثلاث سنوات من تمديد الولاية، على اثر "الثورة البيضاء" في العام 1952، أتى نتيجة اتهام المعارضة له بـ"الفساد وبمحاباةً للأقرباء". إذ كان خلف فوزه في الانتخابات النيابية في العام 1947 شقيقه سليم الخوري صاحب اليد الطولى في القصر الجمهوري وفي دوائر الدولة، مستحقاً لقب "السلطان سليم". فما بين المحسوبيات في التوظيفات و"التوصيات" التي كان يقوم بها في المحاكم للمقربين ازدادت النقمة على الرئيس وشقيقه، لاسيما بعد اسقاط رموز "المعارضة" في تلك الانتخابات.

وإذا كان بيان استقالة رئيس الوزراء سامي الصلح آنذاك قد تناول نقمة الناس "من حالة الفساد" و"الاستهتار بالقوانين والتطاول على هيبة النظام وتسخير مرافق الدولة ومصالحها لحساب الأفراد الذين يعملون من وراء الستار"، في تلميح إلى "السلطان سليم"، إلا أن بعض معارضي الصلح لفتوا إلى أن الأخير كان يضع بيانين في جيبي بذّته، واحد ضد "العهد" وآخر معه.

ورغم أن انتهاء عهد الرئيس كميل شمعون بعد الحرب الأهلية المصغّرة في العام 1958 أتى نتيجة انقسام اللبنانيين بين المحورين الناصري والغربي، إلا أنّ تُهم الفساد كانت سلاح المعارضة لتقويض العهد. فقد طاولت العهد تهم الفساد في ملف إعادة إعمار المناطق التي ضربها زلزال العام 1956، والمحسوبيّات في الوظائف، وصولاً إلى تورّطه بقضايا دعارة... إلا أنّ إقدام شمعون على فرض قانون انتخابي أسقط المعارضين، وفي مقدّمهم كمال جنبلاط في العام 1957، قد فعل فعله في اشتداد حدّة المعارضة عليه. فشمعون الراغب في تمديد ولايته عبر مجلس نيابي موالٍ له فرض المقربين منه نواباً لا يملكون التمثيل الشعبي رغم أنف المعارضين. وما أشبه الأمس باليوم.

لم ينجح عهد الرئيس فؤاد شهاب في الحدّ من الفساد والمحسوبيات في الوظائف، رغم إنشاء مؤسسات حديثة للدولة مثل مجلس الخدمة المدنية والتفتيش المركزي وديوان المحاسبة، وانتهى عهده بسيطرة "المكتب الثاني" على الإدارة والحياة السياسية على حد سواء. ولم تسلم العهود الرئاسية قبل الحرب وخلالها من تفشي الفساد وفضائحه، من إفلاس بنك انترا مروراً بصفقة طائرة بورما ووصولاً إلى سيطرة الميليشيات على إدارات الدولة والمرافق العامة.

وانتقل الفساد مع سيطرة "أمراء الحرب" إلى جمهورية ما بعد الطائف، حيث تقاسم أركان الطبقة السياسية غنائم الدولة المتهالكة محوّلين إدارات الدولة إلى بؤر للمنافع والمحسوبيات، من مجلس الانماء والاعمار ومجلس الجنوب ووزارة المهجرين وصولاً إلى جميع المصالح العامة.

لكن مشكلة الفساد ليست في استفحالها وانتشارها فحسب، بل في كون الفساد استحال مادة لتقاذف التهم بين المسؤولين. كما لو أنّ الأمر عادي أو عبارة عن اختلاف في وجهات النظر. فمنذ اندلاع أزمة النفايات وسقوط التلزيمات السابقة لجمع النفايات، مروراً بتلزيمات معاينة الميكانيك والفضائح التي طاولت وزارة الاتصالات وشركة أوجيرو، وصولاً إلى الخلافات حول استجرار الطاقة الكهربائية بواسطة البواخر، وانتهاءً بسيطرة مافيات المولدات الكهربائية التي حرمت منطقة الجنوب من التغذية بكهرباء الدولة، لم نشهد أي معالجة لأي من تلك الملفات تكشف عن الفاسدين والمفسدين. فـ"لفلفة" الملفات هي سيدة الموقف في ظل تورّط الجميع.

ورغم الصراخ الكثير الذي اطلقه البعض لتأسيس لجان واجهزة لمكافحة الفساد، لا تعدو الأخيرة إلا تهديداً للحصول على مزيد من المكاسب السياسية من الطرف الآخر. فتارة ترى الوزير الفلاني يتهم المسؤول الفلاني بالبلطجي، وتتوالى قيادة الطرفين على تقاذف تهم الفساد، وطوراً تراه يرسل له رسائل "الصلحة" والوقوف صفاً واحداً لمكافحة الفساد. حتى أن من أشبع الناس كلاماً عن فساد تيار سياسي بعينه، واستحالة "إبراء" ذمة حكوماته السابقة من مالية الدولة، دخل في "تسوية" سياسية معه واضعاً "الابراء المستحيل" جانباً.

لقد أُشبعت مقولة مكافحة الفساد لغواً من قبل المسؤولين السياسيين. ما جعل الكلام في الفساد ومحاربته أمراً مملاً حتى الغثيان، فبات يشبه الملل الذي نشعر به كلّما سمعنا السياسيين الموغلين بالطائفية وهم يتحدثون عن "الغاء الطائفية السياسية" في لبنان، هذا الشعار الذي يرتقي إلى زمن ما قبل الحرب الأهلية. فمقابل تصاعد الخطاب المطالب "بالغاء الطائفية السياسية" كان يتصاعد خطاب "علمانية الدولة" من قبل الطرف الآخر. ولكي لا نغوص في أحقيّة أي من هذين الشعارين وطبيعة القوى التي نادت بهما، انتهى الأمر بسيطرة القوى السياسية الطائفية على كلي الشعارين وتمّت إعادة تدويرهما طائفياً، ووضعت الاطراف المتقابلة نوعاً من "الفيتو" الطائفي المتبادل، لعدم تحقيق أي من الأمرين.

أما اليوم فقد تجنّد جميع أركان الدولة، الذين حكموا البلد بعد الحرب والطارئين منهم على نعيم تقاسم مواردها، إلى شنّ حرب على الفساد المستشري، منتقلين من تقاذف التهم بشأنه إلى انتهاج خطاب مكافحته. بالتالي، لم تعد مكافحة الفساد مادة للتجاذب السياسي، بل بات مصيرها يشبه مصير "الغاء الطائفية السياسية"، الذي وضع على رفّ "الميثاقية اللبنانية"، حيث توضع القضايا الخلافية.