وزارة التخطيط: لماذا أُلغيت ولماذا تُعاد؟

علي نور الدين
السبت   2018/06/09
قد لا يكون سهلاً أن يتقبّل الجميع اعطاء الدور المطلوب لوزارة التخطيط (دالاتي ونهرا)

كان لافتاً في المداولات المتعلّقة بتشكيل الحكومة الجديدة بروز بعض المطالبات باستحداث وزارة التخطيط أو التصميم. هذه المطالبات سبقها، في أواخر العام 2016، اعتماد وزارة دولة لشؤون التخطيط في الحكومة السابقة، من دون أن يكون هناك أي كيان إداري فعلي أو حتّى صلاحيّات ومهمات قانونيّة لها.

إحياء الوزارة
في الواقع، لا يمكن اعتبار هذه الدعوات مطالبة بـ"استحداث" الوزارة بقدر ما هي مطالبة بإحيائها. إذ إنّ تاريخ لبنان شهد وجودها الفاعل في الحياة السياسيّة بين العامين 1954 و1977 تحت مسمّى "وزارة التصميم العام"، قبل أن تلغى. كان الهدف من الوزارة تنسيق وتخطيط السياسات والمشاريع الحكوميّة وفق خطّة اقتصاديّة واجتماعيّة شاملة، بحيث يتكامل الجهد التنموي للوزارات وأجهزة الدولة، بدل أن يتضارب أو يخضع لاعتبارات المحاصصة.

لاحقاً، كان البديل بعد الغاء هذه الوزارة إسناد دراسة المشاريع المتعلّقة بالتنمية والإعمار إلى مجالس طغى عليها الطابع الخدماتي وفق نظام المحاصصة، مثل مجالس الإنماء والإعمار والمهجّرين والجنوب. وقد عملت هذه المجالس "بالمفرّق" تحت وصاية رئاسة مجلس الوزراء من دون أي خطّة متكاملة على المستوى الوطني.

لم يكن وجود وزارة التصميم العام مجرّد تفصيل في حسابات الحكومات المتعاقبة، ويدل على ذلك تولّي رئيس الحكومة سامي الصلح شخصيّاً مهماتها عند تأسيسها في العام 1954. وبعدها تولّى رئيس الحكومة رشيد كرامي مهماتها في حكومة 1958. ويمكن القول إنّ مكانتها في النظام السياسي في ذلك الوقت أهلتها لأن تكون "أم الوزارات"، خصوصاً لجهة لعبها دوراً كبيراً في تحديد التوجّهات الرسميّة واقتراح المشاريع المختلفة بحسب هذه التوجّهات.

أم الوزارات: الهيكليّة والأدوار
شملت هيكليّة الوزارة في ذلك الوقت مجلساً للتصميم والإنماء، يرأسه الوزير ويضم 10 من ذوي الاختصاص في المجالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والعمرانيّة وغيرها. كما ضم مديريّة للاحصاء المركزي ومديريّة للدراسات والتخطيط، بالإضافة إلى مديريّة عامّة تتولّى المهمات الأخرى في الوزارة.

وقام عمل الوزارة أوّلاً على جمع المعلومات الاحصائيّة وتنسيق الجهد الاحصائي لمختلف أجهزة الدولة، ومن ثمّ دراسة هذه الاحصاءات وتحليلها ونشرها. وبناءً على هذه الدراسات والتحليلات تولّت الوزارة الإعداد لخطّة شاملة ومفصّلة على المستوى الوطني، بناءً على أهداف اقتصاديّة واجتماعيّة محدّدة، وسياسات كفيلة بتحقيقها على المدى البعيد.

وبمجرّد توفّر هذه الخطّة والسياسات، كان بامكان الوزارة توجيه الإدارات والوزارات الأخرى لدراسة مشاريع تفصيليّة محدّدة، تتعلّق بمهمات هذه الوزرات والإدارات وتتناسق مع قدراتها وميزانيّاتها. كان المطلوب أن يتم صياغة واقتراح هذه المشاريع بشكل يتفق مع "التصميم العام"، أي الخطّة الشاملة الكفيلة بتحقيق الأهداف الاقتصاديّة والاجتماعيّة الشاملة.

النموذج المنتج مقابل الاقتصاد الريعي
كان الهدف من نموذج الوزارة نفسه أن يتم صياغة هذه المشاريع بشكل يجعلها تصب في خدمة أهداف كبرى متكاملة، لا على أساس المحسوبيّات والخدمات المحليّة الضيّقة. ولعلّ النقيض هو ما جرى بالضبط بعد الغاء نموذج الوزارة واستبداله لاحقاً بمجالس الخدمات، التي قامت على أساس توزيع موارد الدولة على النافذين من خلال هذه المجالس. فكانت المشاريع مجرّد أدوات لتقديم الخدمات على المناصرين والمتعهّدين المقرّبين.

كما كان الهدف من الوزارة توجيه الموارد الرسميّة لتنمية القطاعات الاقتصاديّة الإنتاجيّة وتحفيزها، وفق الأهداف العامّة التي تتولّى هذه الوزارة صياغتها. وهنا أيضاً حصل النقيض مع الغاء الوزارة واعتماد نموذج الإنفاق العبثي وغير الموجّه. فتنامت القطاعات الريعيّة (المضاربات العقاريّة مثلاً) وتضاءل دور القطاعات الإنتاجيّة (زراعة وصناعة) تحديداً، بفضل غياب أي توجيه للإنفاق والمشاريع بما يخدم حاجات القطاعات المنتجة.

قد لا يكون سهلاً في الفترة المقبلة أن يتقبّل الجميع اعطاء الدور المطلوب لهذه الوزارة، حتّى بعد تأسيسها، خصوصاً أن دورها على صعيد التخطيط يتقاطع مع أدوار المجالس الخدماتيّة التي يتقاسمها أصحاب النفوذ. وبدايةً من مجالس الجنوب والمهجّرين والإنماء والإعمار. لكنّ التأسيس على هذه الفكرة مطلوب للانطلاق على الأقل في مستوى التخطيط، قبل العمل على توجيه الإدارات المختلفة على أساس هذه الخطط. ومن المهم أن يدرك الجميع أنّ فكرة الوزارة وأهدافها موجودة منذ تأسيسها في العام 1954، كي لا يتم التعامل مع الفكرة بحسب الاتجاه السياسي لمن طالب بإعادة إحيائها اليوم.