قصة تظاهرة ميتة

يوسف بزي
الأحد   2018/12/16
هي لحظة النشيد الأممي وحسب، تلك التي تمنح هذا المشهد الذاوي شحنة عاطفية (علي علّوش)
ركبت "الفان رقم 4"، كي أصل إلى هناك، حيث يتجمع أنصار الحزب الشيوعي اللبناني أمام المصرف المركزي. الشوارع الخالية التي تجعل نهار الأحد مستحباً للمتجولين، فجأة باتت مع اتجاه السير نحو الحمرا مختنقة بالازدحام. على الرصيف كان رجل يسير مرتدياً كنزته الحمراء مصطحباً والدته التي ارتدت أيضاً ثوباً أحمر. شيوعيتهما قديمة وعائلية على الأرجح، وهما مخلصان لهذا الإرث وللذاكرة. وعلى الرصيف الآخر كانت شلة من الطلاب متجهة أيضاً إلى مكان التجمع. ومن بين هذه الشلة كان شاب عشريني يحمل كرتونة كتب عليها "جنسية لبنانية للبيع" مذيلة برقم هاتف.

الحزب كله
عند تقاطع "الصنائع" تظهر طليعة الحشد، مقدمته التي تتصدرها شاحنة صغيرة مستأجرة من مؤسسة "أرزوني"، متعهد الميكروفونات والكراسي ومكبرات الصوت. فيما مراسلة إحدى محطات التلفزيون وطاقمها التصويري، تحاول أن تلتقط أحداً من محترفي التصريحات. هنا، في بداية التجمع، تبدأ فاعلية الصوت التي تغلف سينوغرافيا الحشد. بالطبع لا بد من أغاني شريط "أنا مش كافر" لزياد الرحباني الطالعة من مكبرات الصوت، تليها أغاني الشيخ إمام (المصري). لا بد من كوفيات متدلية عن الرقبة، من شارات حمراء، ومن لافتات مفعمة بالعبارات الجاهزة عن حيتان المال والطائفية والفقراء. لا بد أيضاً من رايات المنجل والمطرقة. التجمع الذي ضم بضعة آلاف هم قوام الحزب بكامل طاقته، وقد انضم إليهم بضع عشرات من الذين ارتدوا سترات صفر تيمناً بالتظاهرات الفرنسية، فيما عمد حزبيون إلى "تأصيل" هذا الابتكار فلبسوا سترات حمر. كانت هناك عصبة في المنتصف من الفتيان المتحمسين الذين يهتفون بلا كلل: شيوعي.. شيوعي. بين الأصفر والأحمر والكوفية، يمكننا تأليف "كولاج" سياسي من مِزق ونتف على صورة الحيرة والتأتأة.

بعض "وجهاء" الحزب كانوا واقفين على درجات المصرف المركزي، تحت لافتة برز فيها اسم "جورج عبدالله" نزيل السجون الفرنسية منذ العام 1984، فيما شعارات أخرى تتعلق بمؤسسة "الضمان الاجتماعي" وأخرى عن الضريبة العقارية أو عن "سلم الرواتب المتحرك"، وبالتأكيد عن "الدين العام والسارقين". أما النسغ الذي يجمع هؤلاء جميعاً فيمكن اختزاله بالنقمة على الفساد ومطلب محاكمة الفاسدين.

السذاجة والخيبة
أحاول جاهداً البحث عن سبب التظاهرة، عن الداعي الطارئ ليخرج الحزب الشيوعي فجأة، منفرداً أو بالأحرى يتيماً، ويستدعي أنصاره من الشمال ومن الجنوب ومن البقاع والجبل والضواحي، ليستيقظوا باكراً في يوم العطلة ويتجهوا زاحفين إلى العاصمة، وليظهروا هكذا بالكاد يؤلفون تظاهرة "معتبرة"، بالكاد تكون "جماهيرية". دعوة لتظاهرة لا يلبيها مواطنون ولا تنضم إليها قطاعات عمالية ولا جماعات موظفين. مجرد حزبيين متفانين لمنظماتهم المناطقية ولدعوة قيادتهم المركزية.

حتى "حلفاء" الحزب بدوا غائبين، إلا النائب أسامة سعد الذي أتى من غير جمهوره، فيما حضرت عصبة من "جهاز" حزب الله الإعلامي. أهذه هي نتيجة تلك الصرخة التي أطلقها الشيوعيون "إلى الشارع"؟ علماً أن تجربة الشارع مع الحراك المدني عام 2015، الأضخم بكثير من حشد اليوم، والمبتدئة من سذاجة سياسية والمنتهية بخيبة تامة، كان يجب أخذها عبرة، بأن أي حركة احتجاج تتجاهل المعضلة التي تتحكم بالنظام اللبناني وبمصير البلد، سيتجاهلها اللبنانيون، بل وسيرتابون منها حتى العداوة.

أسبوع بأكمله من السبات السياسي في لبنان. صمت وجمود وموات إلى حد الضجر، هو الذي جعلنا نحن الصحافيين نندفع متلهفين نحو الحدث الشيوعي. أخيراً ثمة شيء يحدث. لكن ما من شيء على الإطلاق. مسيرة تبدأ من المكان الخطأ وتذهب إلى العنوان الخطأ. لماذا المصرف المركزي؟ لا هو وزارة مالية ولا هو موضع شبهة فساد ولا هو صانع سياسات اقتصادية ولا هو صائغ قرارات. وإلى أين؟ إلى مقر حكومة غير مؤلفة، غير موجودة؟ فمن يخاطبون؟ إلى من يحتجون؟ والأفدح هو هذا اللاقول السياسي ولا المطلب المحدد. الشعارات الجذابة هي مشاعة للجميع. يمكن لحزب الكتائب، لسامي الجميل شخصياً أن يرفعها بوضوح وبحدة أنجع من نوع "لا نقص في الأموال بل زيادة في اللصوص". يمكن أن يشاركه إياها حزب الله، وربما يصرخها رئيس مجلس النواب نبيه بري بنفسه.

في مناسبات كهذه يمكننا فقط أن نستأنس بحماسة الطلبة الجامعيين، وشطحاتهم العقائدية (والفكرية) كأن يرفع أحدهم لافتة "الصراع طبقي ونص"، كأنه ما زال هناك في كافيتريا الجامعة يستمتع باكتشافه البدائي للفلسفة الماركسية، فيما زميله الأكثر إبداعاً يكتب بشيء من الهرطقة: "تعرفون الحقيقة - الصراع الطبقي - والحقيقة تحرركم" (يوحنا 8- 32) والأصح هو "الحق". وهناك شاب اكتفى بـ"الاشتراكية هي الحل - عم بحكي عنجد". وإصراره على الجدية هنا، تبدو تحسباً وحدساً منه أن عبارته قد تستجلب الهزء أو السخرية على نسق ما أصاب "الإسلام هو الحل".

الشبان والخدعة
هي لحظة النشيد الأممي وحسب، تلك التي تمنح هذا المشهد الذاوي شحنة عاطفية لا يمكن إغفالها، بصداه العميق في الوجدان اليساري. لكنه يطلع منهكاً هنا، ضعيفاً، من حناجر غير متفائلة فاقدة الثقة، طالما أن مجموعة صغيرة في وسط التجمع راحت تهتف "الشعب يريد إسقاط النظام" مرتين أو ثلاث، من دون تجاوب، فارتبكت وصمتت وانتبهت لخطيئتها الفادحة، إذ أن حزبهم اللبناني ما كان لا مع الشعب ولا مع الثوار، بل متلطياً خلف عباءة الممانعة، مستحياً من شعوب "جاهلة متدينة" يستكثر عليها الانتفاض بوجه الظلم.
من لعثمة "الشعب يريد إسقاط النظام" التي انطفأت فوراً، ندرك إلى أي حد توحّل اليسار اللبناني والعربي، وكم اغترب عن نفسه، فبات على صورة "الحزب الشيوعي اللبناني" يتيماً لئيماً ( شريك مائدة اللئام).  

مشيت التظاهرة الشيوعية كلها، وغادرتها عندما اعتلى الصارخ حنا غريب. مشيت بين أناس هم فعلا خارج الطوائف، هم فعلاً أهل مطلب العدالة الاجتماعية، هم يستحقون الاحترام لانحيازهم للضعفاء. مشيت بينهم كما لو أنهم جميعاً مشروع أصدقاء.. لولا أنهم مجرد حزب ميت في تظاهرة ميتة، في بلد يقتل السياسة (والأحلام) كل يوم.

كم تأسفت على الشبان والشابات في هذا الحشد، بأرواحهم ونواياهم الطيبة وأفكارهم الطرية.. والخدعة التي يذهبون فيها سهواً.