شراكة الإنقلاب على السنية السياسية

أحمد جابر
الإثنين   2018/10/08
ما المشهد الذي ستكون عليه حكومة الإضعاف؟ (الأرشيف)

يوماً بعد يوم، تتراجع فصول التفاهمات الثنائية والثلاثية بين كتل الطائفيات السياسية، وتتقدم لتأخذ مكانها فصول من "التفاهمات" التوزيعية التي يطلق عليها من يروِّج لها أسماء من قبيل: الميثاقية والشراكة والوطنية والاتحاد الوطني، وهذا مما يتبين تضليله من خلال قول الشيء وضده، وممارسة الأمر ونقيضه، وعرض التفسيرات والتبريرات السطحية، كل ذلك يقوم به "ممثلون" للشعب أُسقطوا بمظلات القانون الانتخابي الأخير، أي ذاك الذي خلا من الوطنية التي تفترض الجمع، واكتنز طائفية تعبق بالقسمة، فكانت حصيلته تجميعاً تمثيلياً هجيناً وموزعاً، تسكنه الفرقة بين "الأنا والآخر"، والتناحر بين صنوف "الأنا" التي غادرت وحدة ذاتها منذ زمن صراعي بيني مديد.

لكن، وككل صراع سياسي، يذهب الانتباه إلى الجانب الخلفي من الصورة، أي إلى محاولة قراءة جملة المصالح التي تقود سياسات المتصارعين، وإلى حقيقة الحسابات التي تتحكم بأدائهم العملي، وتشكل مضمون منطوقهم الإعلامي والإعلاني.

في راهن السياسة اللبنانية، وفي سياق التعطيل الذي طال لعملية تأليف حكومة مقبولة من جميع الأطراف، أي من الكتل التي حازت على حاصل نيابي أعلى ضمن بيئتها، وفي محاذاة قريناتها، لا يصح الركون إلى خطب "الأهليات" المتنابذة، فهذه الخطب موجهة أولاً إلى الجمهور الخاص للحفاظ على استنفاره، واستطراداً تماسكه، وقليلاً ما تعير الانتباه إلى العام، إلاّ في معرض التمسك الشكلي بلفظية المصلحة الوطنية، هذه التي يعتبرها الجمع الأهلي المتنابذ "عليا" نطقاً لكنها "دنيا"، واقعاً، وبشهادة كل الممارسات.

في استعادة قريبة وبعيدة ليوميات السياسة اللبنانية، يقتضي الانتباه إلى أن اتفاق الدوحة الذي جاء بعد انقلاب الشيعية السياسية على جملة من "الأعراف" الوطنية، كرَّس حق النقض لكل طائفة كبرى، وأعطى حق التعطيل لكل فريق ضمن طائفته، هذا في البعيد الذي ليس مغرقاً في البعد، أما في القريب الطريّ العود، فإن رئاسة الجمهورية الحالية أُفرج عنها كما هو معلوم، بعد تعطيل انقلابي مشابه جعل انتخاب الرئيس عون معادلاً لإعادة "انتخاب" إطلاق دوران عجلة البلد الذي صار مختلاً وفقاً لمقاييس "عمرانية" عديدة. انتخاب الرئيس الثاني المكرّس على منصة المجلس النيابي لم يكن عسيراً، فما يُعطى لهذا المركز من اعتراف ممثل بشخص رئيسه، هو اعتراف بالموازين السائدة داخل الأهليات اللبنانية وفي ما بينها.

بكلامٍ آخر، ما زال السياق العام سياق تفوق للشيعية السياسية المستندة إلى تماسك كتلتها، وإلى "مد اليد" الناجح الذي مارسته هذه الشيعية داخل الكتل الأهلية الأخرى، وما برحت تحصد منه جنى سياسياً وفيراً. ولا يقع في عالم المجهول القول، إن للشيعية السياسية "قرارها" المهم ضمن فريق المارونية السياسية الذي يمثله التيار الوطني الحر، وتيار المردة، ولدى أسماء لها حيثيتها ضمن عموم المسيحية السياسية، مثلما لا يقع في عالم اللامعلوم ما للشيعية السياسية من نفوذ ضمن تجمعات من السنية السياسية، ولدى أسماء وازنة في كواليس صناعة سياساتها.

على ذلك، وكنتيجة لصراع الأهليات على القرار، في بيئتها الخاصة وفي البيئات المضافة كقوة استعمالية، تمخَّض المشهد الواقعي عن ضعف إضافي للسنية السياسية، فهذه الأخيرة باتت هدفاً للتصويب على مركزها ضمن المعادلة اللبنانية العامة، وباتت حصتها في الكيانية اللبنانية مقصداً لنهب كل من يريد نهباً كيانياً إضافياً. تختلف وضعية القاصدِين الناهبين، وتختلف حساباتهم. فالطرف الماروني السياسي، خصوصاً الذي يمثله التيار الوطني الحر، ليس لديه ما يعطيه إيجاباً، أي ما يشكل إضافة إلى استيلاد صيغة" إتفاقية" وليس توافقية، تكتب لها حياة استقرار مديد. ولأن الأمر كذلك، فإن هذا الفريق "التياري" يسعى إلى صيغة خاصة تمكن له ضمن المسيحية السياسية، ما دام التمكين على المستوى الوطني متعذراً وقلقاً، وحصانته الأهم يوفرها اليوم الصمت الشيعي السياسي عن محاولة التمكين.

في هذا الإطار يمكن فهم الصراع مع حزب القوات اللبنانية أولاً، ومع سائر الطيف المسيحي السياسي الذي لا يوافق التيار الوطني الحر قوله، ولا يفعل فعله. لكأن السياق الحقيقي هنا هو توافق "أقليتين" داخليتين على ديمومة التصويب على أقلية داخلية أخرى، أي السنية السياسية التي حفظ لها الدستور موقع الرئاسة التنفيذية الثالثة. وهذا في صيغة أخرى، سعي من قبل الأقليتين الآنفتين للفوز بمضمون عنوان: الأمر لي، وانتزاع الاعتراف من الباقين بترجمة هذا الأمر في مجرى السياسة اللبنانية العامة.

واقتتال أطراف البنية على إمرتها وعلى مكاسبها، ينفصل عن حسابات المعادلة الإقليمية، ففي هذه المعادلة يحضر العربي وغير العربي، وبهذين العنوانين يرتبط ويلتحق أكثر من طرف لبناني. على هذا الصعيد تقفز الشيعية السياسية من فوق حسابات إضافاتها المحلية الاستعمالية، فإذا كانت هذه الأخيرة تخوض معركة الحصص السلطوية المراد انتزاعها من السنية السياسية محلياً، فإن الشيعية السياسية، ومن خلال قواها الغالبة والمتغلبة، تندرج في سياق مشروع خارجي سياسي يرتدي عباءة مذهبية، ويوجه عناية تدخله وتعظيم نفوذه، داخل عدد من البلاد العربية حيث السنية السياسية هي السائدة عدداً ونفوذاً، وهي التي تتولى منذ الاستقلال الحديث للبلاد العربية شؤون العباد الدينية والدينوية.

في هذا المضمار الداخلي– الخارجي، يصير إضعاف السنية السياسية اللبنانية، وتصعيب أمورها، وعدم التسهيل لها إلا بشروط، يصير كل ذلك جزءاً من سياسة عامة عنوانها إضعاف السُّنيات عموماً، في لبنان كما في اليمن، وفي العراق كما في البحرين، وفي سوريا كما في السعودية. أما أساليب الإضعاف فمتناسبة مع كل بلد من البلاد، تغرف من مادته، وتبني على معضلاته، وتضيف إلى توتراته الداخلية شحنات خارجية. والحال، ما المشهد الذي ستكون عليه حكومة الإضعاف التي ما زال يحاولها الرئيس المكلَّف سعد الحريري؟ وعليه، ما المشهد اللبناني الذي لن تسدل الستارة على "الريح التي تحته" حتى أمد بنيوي طويل؟