"المية ومية": القرية المسيحية الخائفة والمخيم الموبوء بسلاحه

يوسف بزي
الثلاثاء   2018/10/30
المغاوير في ساحة قرية المية ومية (علي علوش)
في أي يوم آخر، وتحت هكذا شمس خريفية، ستظن قريةَ "المية ومية" فوق هضاب صيدا، وكأنها مرتعٌ للدعة والهناءة، وعلى صورة أي بلدة متوسطية وافرة الزيتون وكروم العنب وبساتين الليمون، وتشبه تلك القرى القابعة في المخيلة التي صاغتها الأدبيات الغنائية اللبنانية.

هذه هي الخدعة الماكرة، حيث جمال الجغرافيا يموه قبح التاريخ وبشاعة الحاضر. على مدى الأسبوع المنصرم، خرجت شياطين السلاح من مخابئها، من أوكار "مخيم المية ومية" المواجه للقرية، لتمارس وظيفتها القذرة: الاشتباكات والمعارك العبثية والاقتتال في زواريب البؤس والخوف والموت المجاني.

هناك على التلال المجدبة والمكتظة بالبيوت الباطونية العشوائية تتكدس أجيال متوالية من اللاجئين الفلسطينيين، المحشورين في ضيق المساحة كما في مجهولية المستقبل، عالقين في هويتهم المسلوبة وحياتهم المدقعة.

مجارير وأرض محرمة ومخابرات

عند مدخل المخيم، لم يأذن لنا الجنود اللبنانيون، المتحصنون بحاجزهم، بالدخول. وقفنا عند الحاجز أمام "نهر" المياه الآسنة ومجارير الصرف الصحي، المتدفق في الشوارع نزولا إلى طريق مدينة صيدا. بدا لنا المخيم، الموبوء بمسلحيه وبالرائحة الكريهة للمياه المبتذلة، كبؤرة غامضة وأرضاً محرمة وخطرة. فضابط مخابرات الجيش الذي توجهنا إليه في ثكنة زغيب أصر على منعنا من الدخول: "لن تعرفوا متى ومن أين قد تأتيكم رصاصة قاتلة"، قال هازئاً وأضاف: "هناك مجموعات مسلحة عديدة في داخله، ولن أضمن سلامتكم، وحتى ولو ذهبتم إلى مديرية التوجيه بوزارة الدفاع فلن تحصلوا على الإذن".

نخرج من مبنى "مخابرات الجيش" حيث في مدخله كان يصطف عدد من الشبان المعتقلين ووجوههم قبالة الجدار في الممر المعتم، فيما العائلات خارج الثكنة تفترش الرصيف انتظاراً. مشهد يختصر "علاقة" المخيم بمحيطه، كما يختصر مصائر شبانه وأهله.

كل شيء في مدينة صيدا وجوارها وقراها يتحول ويتغير. ثمة "مدن" من مجمعات سكنية تقضم السفوح وتبتلع القرى القديمة. انتهت تلك الفسحات البرية التي تفصل المدينة عن ريفها أو تباعد بين القرية والأخرى. تبددت البساتين أمام هذا المد الهائل للبنايات العالية. هو المشهد ذاته على طول الطريق الساحلي من تخوم بيروت إلى شرق صيدا، مجمعات تلاصق مجمعات، حيث العمران يرسم اجتماعاً من حيرة واضطراب.

هكذا، وسط كل التحولات وتوالي الأزمان، يبدو مخيم عين الحلوة ومخيم المية ومية، كأرض منسية، منبوذة ومسورة باللاأمن وبكثير من رجال الأمن والسلاح. مخيمات "الانتظار" الأبدي والتعاسة المستمرة.

تمثال العذراء وفوج المغاوير

"مرحباً بكم في المية ومية بوابة شرق صيدا" عبارة منقوشة بأحرف ذهبية على القوس الحجري الضخم، الذي يزين مدخل القرية المسيحية الوادعة، والناجية حتى الآن من تحولها إلى ضاحية مجمعات. ما زالت هكذا فخورة ببساتينها وكرومها، وببيوتها العائلية المتوزعة بلا اكتظاظ ولا مبالغات هندسية.

في الساحة التي يرتفع وسطها تمثال السيدة العذراء، انتشرت الآليات العسكرية لفوج المغاوير، سرية كاملة من الجنود المدججين بالعتاد القتالي الثقيل، كما لو أنهم على استعداد تام لمعركة كبيرة. لقد وصل المغاوير صباح الثلاثاء بكامل قوتهم ومشهدهم الاستعراضي المهيب، من أجل طمأنة السكان أولاً، الذين كانوا يطلون من شرفات منازلهم بغبطة حذرة.

اليوم، هدوء تام يخيم على صباح "المية ومية" بعد أيام من الاشتباكات داخل المخيم، بين تنظيمات فلسطينية تتنازع الولاء والشعارات، وتتصارع على نفوذ بحجم زاروب، أو سيطرة بحجم ثلاثة منازل. قذائف الـ آر. بي. جي. التي انفجرت فوق بيوت القرية في الأيام الماضية، جعلت قسما من السكان "ينزح" إلى بيوت في بيروت أو صيدا أو إلى جهة من القرية بعيدة عن المخيم الملاصق.

الفوضى القاتلة

آل بو سابا الذين رحبوا بنا بتلقائية الود واللطف، صاروا يتناوبون متلهفين للكلام: "نحن هنا كشخص يتعرض كل حين وفجأة لنوبات ألم البحص في كليته"... "وجع مزمن يحيي آلام التهجير عام 1985، وآلام الخراب في حرب حارة صيدا (حركة أمل) والمخيمات الفلسطينية، وآلام ذكرى انفجار الحروب منذ نيسان 1975 وانفلاش السلاح الفلسطيني ودوامة الميليشيات والاجتياحات الاسرائيلية".

نظر إلي الرجل الستيني قائلاً بحرص: "ليس لدينا أي مشكلة مع أهل المخيم، هم أصلاً يعملون بمهارة في أراضينا الزراعية وبساتيننا، يعملون أيضاً في ورش البناء والمهن اليدوية. المشكلة بهؤلاء المسلحين التابعين لأطراف خارجية، إما لمحور الممانعة وإما لمحور خليجي" (حرفياً). يضيف بو سابا: "هؤلاء شبان جعلوا السلاح مصدر رزق، مرتزقة وعاطلون عن العمل يحملون البندقية غب الطلب".

يستغرب أهل القرية غياب النائبة بهية الحريري، التي لطالما كانت فاعلة في ضبط هكذا حوادث خطيرة. بل وغياب كل نواب المنطقة. لقد شعر أهل القرى المجاورة أنهم متروكون لهذه الفوضى القاتلة. يعلّق العسكري المتقاعد: "كأن المعضلة أكبر من القوى السياسية الصيداوية.. وبصراحة، محور الممانعة يريد جماعة جمال سليمان (عصبة "أنصار الله") ليمسك بالمخيم، يريدون قوى سنّية مسلحة تحت تصرفهم".

مأساة أهل القرية لا تتوقف فقط على الانفلاتات الأمنية المتكررة في المخيمين "المية ومية" و"عين الحلوة"، والتي جعلتهم يتحاشون سلوك الطريق التقليدية القديمة ويلجأون منذ سنوات إلى سلوك طريق عبرا، لكن أيضاً معاناتهم التي تتمثل باستيلاء بعض أهل المخيم المستقوين بالسلاح على أراضي القرية ومصادرتهم لبعض المنازل والمباني بل وحتى طردهم لبعض العائلات من عقاراتهم. يقول أحد السكان وهو يتفرج على انتشار الجيش في الشوارع: "دور الجيش يجب أن يكون أبعد من حماية القرية.. من في المخيم يسيطرون على أراضينا ويبنون عليها ونحن لا نستطيع حتى الاقتراب منها. لا أحد يطالبهم بدفع ثمن الكهرباء أو مياه الشرب، لكن نطالبهم باحترام القوانين اللبنانية". ويضيف بحدة وحسرة: "لو أن المية ومية قرية شيعية لما تركوا هذا المخيم على حاله.. لو أرضي معي لما كان ابني مهاجراً".

"أنصار الله" وحفلة شنق علني

عند شرفة آل بو سابا، يسهب صاحب البيت شارحاً الضيق الذي يخيم على القرية: "بسبب الوضع القائم في المخيمات، لا استثمار ولا سياحة ولا مبادرات تنمية.. كل اشتباك يحدث يذكرنا بالماضي، حين كانوا يرفسون الأبواب ويدخلون على بيوت الناس. يذكرونا بالجريمة الجماعية التي ارتكبوها هنا عام 1975".

نجلس مع شبان القرية الذي يدخنون النارجيلة على مصطبة واسعة تكشف المخيم كله من أوله إلى آخره: "عدنا بعد التهجير عام 1992، لكننا نفتقد للحياة الاجتماعية وللنشاطات والعيش الرحب.. باتت صيدا مدينة منغلقة وكئيبة".

صاحب المهنة الحرة يقول أن لديه منزلاً "احتياطياً" في بيروت: "لا طمأنينة دائمة هنا". هو يعرف بعض أسرار المخيم من بعض شبانه الذين يأتون للعمل عنده: "جماعة أنصار الله كانت تضم حوالى 300 مسلح، قتل زعيمهم جمال سليمان سبعة منهم، كما أن واحداً من أتباعه كان مطلوباً من الدولة ومن حزب الله، لم يسلمه بل عذّبه وشنقه علناً في ساحة المخيم. بعدها تخلى عنه حوالى مئة شاب، وبقي معه حوالى 150 مسلحاً.. لا أفهم لماذا لا يتم نزع السلاح من المخيمات. يقولون أنه لحماية أهل المخيم؟ ممن؟ الحرب انتهت منذ 28 سنة، فلماذا السلاح؟ للحماية؟ إذا، يلزمنا نحن أيضاً السلاح لنحمي أنفسنا.."

يقول شاب آخر: "ندفع الضرائب وتكاليف معاملات حصر الإرث والغرامات عن أراضينا في مخيم المية ومية وفي عين الحلوة ولا نستطيع الاستفادة منها أو استرجاعها. المخيم تمدد في السنوات الماضية.. هل ترى السفح هذا؟ قبل خمس سنوات كان خالياً والآن ها هو كتلة من البيوت..علماً أن هناك قراراً بمنع دخول أي مواد بناء إلى المخيم. فكيف يتم ذلك؟"

سؤاله ذكرني بما قلته لجندي الحاجز: "هل تستطيعون منع دخول السلاح بفاعلية منع دخول الصحافيين؟"

بالطبع لا جواب في هكذا بلد يتغنى بـ"معادلة ذهبية" عمادها طلب الحرب والسلاح والكثير من الموت المجاني.