الشاطر يفهم

محمود بري
الإثنين   2017/02/20
سلم بري عصا المُعارضة إلى بديله في السباق جنبلاط (حسن إبراهيم)

لا جديد بشأنه تحت شمس لبنان بالنسبة إلى قانون الانتخاب الممنوع التباحُث في نماذجه ونسخاته السبع عشرة المحفوظة بأمان في أدراج البرلمان، اللهم إلّا الببغائيات التي تتجوّل على الألسن والشاشات، بكلام لا يعني شيئاً في المحصلة... ويعني كل شيء في ميزان الطبقة السياسية المتمكِّنة من رقبة بلد الأرز.

فهذه الباقة من الذئاب الطليقة التي تتلطّف بمصائر البلاد والعباد ليست في وارد التخلّي عن رسالتها المفترسة وواجبها الشرير ومكاسبها الجزيلة التي راكمتها على امتداد عمر لا تريد له أن ينتهي. والأيام والأسابيع المتسللة كالرمال من بين الأصابع، لن تجد فرصتها لإنتاج أيّ قانون انتخابات يحوز على قدر معقول من العدالة أو يحقق نصف شبرٍ من الرضا العام. فقد تقرر أن يتواصل إنفاقها وبعثرتها في سبيل هدر الوقت وخنق الفُرص والعمل على طبخ ما يمكن من الذرائع والمخارج التي تحافظ على عذرية المنادين جهاراً بدفن قانون الستّين بينما هم أكثر الراغبين في تأبيده.

هذا من الأسرار المُسيئة لأصحابها والتي، لسوء الطالع، بات يعرفها الجميع، بمن فيهم الذين يهمّهم ألّا يعرف بها أحدٌ ولا يصدّقها إنسان. أما مهرجانية التنكّر المتمادية لهذا القانون فقد باتت تشكّل جزءاً من مسلك شاذ يجري التبشير بحسناته والعمل على  "تعتيقه" ومن ثمّ تثبيته ليُصبح تراثاً... وعندها لن يُعدَموا وسيلة لترتيبه داخل سياق النشيد.

أحد الحُكماء المعتزلين أسرّ لي أنّ ما يجري أمامنا من دون أن ندري ما هو إلّا نوعاً سياسياً من "سِباق التبادُل": ينطلق في البداية جناب رئيس المجلس النيابي متصدِّياً لمرشح حليفه الأول للرئاسة، يعترض عليه ويُعارض ترشيحه ويروح يتوعّد بأنه سيكون بشخصه على رأس القوّات الخاصة في ألوية المعارضة. وحين لا يهتز حاجب ميشال عون ولا يتراجع مدد حزب الله له، رغم نُكتة الوزير فرنجية ، يقفز الرئيس العتيق للمجلس النيابي بحركة سريعة، من موقع المعارضة إلى سجادة الموالاة، ليس طمعاً بالهريسة... بل لأن تراثه السياسي البرلماني والوطني يفرض عليه ألّا يستخدم سلطاته لإعاقة العدالة أو الاعتراض على ثلاثية العملية الانتخابية (الفاضحة). هكذا بدا أنه خرج من موقع المعارضة إلى لزوم التعامل مع الأمر الواقع. لكن نكوص دولة الرئيس لم يُفضِ إلى تعطيل السباق ولا إلغائه. فالرجل قام حسب الأصول بتسليم عصا المُعارضة إلى بديله في السباق وليد جنبلاط، فتابع البك كما تقتضي أصول سِباق البّدّل، وراح يُمطر عجلات العهد بالعصيِّ لكبح معارضة رئيس الجمهورية لقانون الستّين وللتمديد للمجلس. وفي سبيل ذلك، لم يجد الزعيم الجبلي غضاضة في استدعاء "مصير المُوحِّدين الدروز" برمّتهم إلى الميدان وتصويره معركته السياسية للحفاظ على سلطانه على أنها معركة الدفاع عن الطائفة المُستفردة. و"يا غيرة الدِّين".

ليس من المستحبّ هنا تصوير الأمور كما لو أن ما يجري في مربط خيل الجنبلاطية التاريخية، هو مواجهة بين مصلحة الطائفة (الدرزية) ومصلحة البك. لكن ما يضطر إلى طرح الأمر على الطاولة من دون قفّازات هو تلك الريح المتصاعدة التي باتت تهبّ داخل هذه البيئة تخوّفاً من انعكاس مغامرة البك على كامل الطائفة التي لم تكن يوماً في منجى من ذلك الخوف الكياني الذي يدخل في نسيج جميع الأقليات التي يتشكّل منها كل شعب- شعوب الجمهورية.

وإذا لاحظنا في الجهة المقابلة ذلك التناقض النافر لموقفين متتابعين للبطل الأول في السباق، حيث يمتنع عن طرح حلوله وأرانبه، ثم وفي ذروة مرحلة نقاهته يستقبل حليفه البك ليتسلّم منه بعض الملاحظات بخصوص قانون الانتخاب المستعصي. أقول إن ملاحظة هذا التناقض تعني بصراحة أن سيد عين التينة ما انفك على عهده مع نفسه ومع حليفه، وأنه ثابتٌ على موقفه القديم المعلن من أنه "لن يمشي بأيّ قانون لا يقبل به بك المختارة". والكلمة الضائعة ليست غير... "قانون الستّين" الذي هو الطوف الذي لا بد منه للحفاظ على النوع... هذا النوع من الطبقة السياسية بالذات.

هكذا تصبح المواجهة التي في ظاهرها بين الجنبلاطية والعونية، معركة حقيقية بين الثلاثي الرافض قانون الستّين والتمديد (التيار الوطني الحُرّ وحزب الله والقوّات اللبنانية) من جهة،  والثلاثي المُستقتل على القانون العتيق والتمديد (الجنبلاطيون، المستقبليون والأمليّون).

لكل ذلك فالعرض متواصل. وعراضات القوّة والتلويح بالشارع باتت واضحة المغزى، وكذلك اتصال رئيس الجمهورية بوزير الدفاع وليس بأي مسؤول آخر... من وطى المصيطبة حيث مبنى تلفزيون الجديد، حتى كلّية العلوم في الحدث حيث عُمّال شركة الخُرافي. والشاطر يفهم.