تسونامي جديد

محمود بري
الأربعاء   2017/10/18
تخويف الحريري ودفعه ليكون الضلع الثالث للترويكا (المدن)

إنه زمن التصعيد في العالم وفي الإقليم وفي الداخل اللبناني على حدٍّ سواء... مهما ارتفعت أصوات التبرّؤ والتهوين، لن يصدّق أحد أن العشاء الثُلاثي في كليمنصو اقتصر على تداول أصناف الأطباق التي يُفضّلها كلُ واحد من الثلاثة المولمين. ولئن لم تُسهب وسائل الإعلام في الإضاءة حتى على ما حوته المائدة من أطباق متنوّعة لتلبية رغبات المجتمعين وأمزجتهم، فهي افتقرت كذلك بشكل غير مسبوق لأي تسريبة تُضيء على المواضيع السياسية التي لا بد أنها طٌرحت وفُنّدت وأُشبعت تمحيصاً وصولاً إلى بناء التوافقات بشأنها. وهذا ليس أمراً عابراً، ولاسيّما في ظلّ حرص المؤتمرين أنفسهم على تجنّب أيّ إضاءة على ما جرى، معتمدين أبجدية  الكلام العمومي الذي يُصدر صوتاً ولا يعني شيئاً في الواقع. لذلك على الأقل، تصحّ تسمية "العشاء السرّي" التي تحمل نكهة التُهمة.

لو أخذنا بعين الاعتبار ما أسماه أحدهم بـ"الاستفراد" بالرئيس سعد الحريري من قِبل الثنائي الألمع في ترسيم الأحداث وهندسة المراحل والأدوار، فالاستنتاج المباشر لا بدّ أن يقود إلى نتائج تصبّ في مصلحة الثنائي "العتيق"، وعلى حساب الثالث (الطري). هذا ليس انتقاصاً من أحد ولا اتهاماً لأحد، بقدر ما هو استنتاج بديهي، يمكن، مثل أيّ استنتاج آخر، أن يكون صحيحاً.

وما يُرجّح صوابية هذا الرأي يمكن قراءته في ما شهدته الأيام التالية من تموُّجاتٍ على صفحة ماء بحيرة البلد. فاستعدادات الحريري من تحت الستار لزيارة العربية السعودية، وإلى جانبه الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، لم تعد سرّاً، وإن لم يتحدّث بها أحدٌ في العلن حتى لحظة كتابة هذا النصّ. وثمةّ من يعتقد أن هذا كان واحداً من المواضيع التي طُرِحت على مائدة العشاء. أما من يرفع حاجبيه استغراباً، فالأجدى له أن ينتبه إلى اندفاعة الرياض المتسارعة لإعادة بناء الجبهة اللبنانية الداخلية المناهضة لحزب الله بُغية "مواجهة المدّ الإيراني وأداته المحلية" حسب تعبير صحيفة "الرياض" السعودية. وجنبلاط هو من دون أي شكّ حجر زاوية في هكذا جبهة، على الرغم من خصوصية وضعه وعلاقاته، فضلاً عن سقوف تطلّباته المرتفعة.  ومن حيث لا ينتبه كثيرون، فإن عملية إعادة تنشيط هذه الجبهة ستحقق، في حال حصولها، خدمة مباشرة للرئيس نبيه بري في سياق مواجهته المُستدامة لـ"حليف الحليف"، على الرغم من جزالة الودّ الإعلامي الذي يتبادله مع بعبدا وسيدها.

وماذا في بقية المشهد؟

هناك أولاً موقف وزير الداخلية نهاد المشنوق (أقرب وزراء تياره إلى رئيس الحكومة)، واندفاعه في انتقاد وزير الخارجية باسيل (أقرب وزراء تياره إلى رئيس الجمهورية). وهذه من علامات المرحلة وليست مجرّد صدفة، ومن خلالها (وبفضلها) أمكن قراءة واقع سوء العلاقة الذي راح يشدّ ويكاد يقطع وتر التوافق والودّ بين رئيسي الجمهورية والحكومة.

في هذا السياق ينبغي ملاحظة أن الاشتباك المشنوقي- الباسيلي الأحدث مطلع الأسبوع الجاري، جاء على غير خلفية اللقاء مع وزير الخارجية السوري، بعدما كانت هذه الجبهة بالذات قد هدأت وابتلعت ريحها. فقد استُعين لإضرام النار هذه المرّة بمسألة أخرى تتصل بتصويت لبنان في انتخابات اليونسكو، إذ اتهمت القاهرة بيروت (أي وزير الخارجية جبران باسيل) بمساندة المرشح القطري ضد المرشح المصري. ما أدّى إلى ثورة غضب الوزير المشنوق وما يمثله. ومع تداعي مزاعم صحة هذا الكلام (الذي فنّده ونقضه لسان الحريري الذرِب المتمثّل بالنائب عقاب صقر)، سارع الوزير المشنوق إلى النزول من فوره عن شجرة المواجهة مع باسيل، متناسياً الخلافات الكثيرة بين الإتجاهين، سواء منها ما يتّصل باللقاء مع الوزير السوري، أو ما يتعلّق بمعضلة النزوح السوري وكيفية معالجتها، أو حتى على مستوى حق المشنوق الشخصي بعدما اتهمه باسيل بالتبعية للخارج. وبدلاً من أن يردّ على ناره بالمثل، ردّ بالورد... وبدا أن التوافق العوني- الحريري أعمق مما تصوّره ثٌنائي الترويكا الفاعل.

كل ذلك أعاد المشهد إلى حقيقته التي لم ينجح العشاء السرّي في تحويلها ولا في تعديلها ولا في تخفيف وقعها على عمودَيّ الترويكا الأساسيين. من هنا، كان لا بدّ من الاستنجاد بالاحتياط الذي يحتفظ الرئيس بري بزرّ تشغيله، فأطلّ الزعيم الزغرتاوي سليمان فرنجية على المشهد، مُذخّراً بعلاقاته التاريخية الوثيقة مع بري والحديثة المتواصلة مع الحريري، ما يعني مناصرته لمقتضيات العشاء السرّي (التي ينبغي أنها لم تكن سراً عليه). وكان هذا مثابة بساط ماروني كامل تسحبه الترويكا العائدة من تحت أقدام العهد وعلى بوّابة الانتخابات المقبلة. وفي حال لم يتم تجاهل ما هو آخذٌ في النموّ أيضاً بين المردة والقوّات اللبنانية بعد طول خصام، يصبح من الجدّي القول إن الجبهة المناهضة للبرتقاليين انتخابياً، في طريقها لاستقطاب جمهور القوّاتيين الغاضبين من تفرّد العهد بكثير من أمور الحكم والتعيينات والمكاسب.

ولا حاجة بعد ذلك لاستذكار الهجمة الميقاتية على الحريري والحريرية السياسية تحت عنوان "يا غيرة المذهب" حين دفع رئيس الحكومة الأسبق بمستشاره السياسي خلدون الشريف ليُعلن بالنيابة عنه أنّ "السنة باتوا يشعرون بأنهم أيتام في عهد حكومة الحريري..."، منتقداً بمرارة ما اعتبره "تنازلات سياسية يقدمها رئيس الحكومة على حساب الموقع السنّي الأول". كذلك، لا ضرورة لعرض الصفعة التالية التي وجّهها النائب خالد الضاهر لـ"المستقبل"، مهاجماً بعباراته الفَضَّة ما اعتبره "تخاذل الحريري  واستسلامه للأجندة الإيرانية في لبنان".

وهذا كلّه لتخويف الحريري ودفعه ليكون الضلع الثالث للترويكا التي يبتغون إقامتها بكل السُّبُل المُتاحة.

وإذا تيسّر لذلك أن يمرّ، فلن يكون إلّا على حساب العونية السياسية التي ستجد أنها مضطرة إلى "رسكلة" حُطام جسورها مع مختلف الأفرقاء، وإعادة إنتاج علاقاتها من جديد، سواء أكان مع  المُتحسسين من "شيطنات" جبران باسيل، أم مع مُتحسسين رقابهم أمام ما يعرفون أنه يدور في جبين رئيس الجمهورية بخصوص سلطانهم الاستثنائي المتواصل منذ عقود.

والتحدي الحقيقي يجبه القويَين الأساسيين في البلد: حزب الله المتحالف بوثوق مع الرئيس ميشال عون، والغارق حتى أذنيه في مواجهات طويلة عريضة تتجاوز البلد وحتى الإقليم. هذا من جهة. ومن الجهة الثانية العونية السياسية الباحثة عن سبيلها إلى تسونامي جديد يتيح لها التمكّن من السلطان وتحقيق بعض حلمها بما تسمّيه التغيير والإصلاح.

والكلمة المفتاح في هذا السياق هي الرسكلة ومقدرة العهد على إعادة إنتاج أدواته التي حطّمتها مواجهاته المتعددة.