سيولة الأوضاع اللبنانية

أحمد جابر
الأحد   2016/07/24
لا تعتني الشيعية السياسية الحالية إلا بتماسك جمهوره (عزيز طاهر)
لم يعد مقنعاً الحديث عن وضع لبناني، فالإشارة إلى الإطار الداخلي الذي تحيط خطوطه بالمجموعات اللبنانية، بات متعذراً وصفه وصفاً فردياً، أو تعيينه تعييناً أحادياً، إذ إن جدول القسمة بات نافذاً بين المكونات الأهلية المختلفة، مثلما بات ثابت الحضور وعنيد الوجود بين أطراف المجموعة ذاتها.

لقد كان من شأن النسق الرسمي أن يقوم بمهمة جعل الأوضاع الفردية وضعاً جمعياً، لكن ما حصل لبنانياً هو توزيع النسق الرسمي، وما كان قد راكمه من بعض الإنجازات العابرة أهلياً، على أزقة الشخصيات المحلية الفردانية، التي واءمت بين أوضاعها الممعنة في انعزالها، وبين تعريفاتها لذواتها المجتهدة في ميدان استنباط مسوغات اعتزالها. يقوم الانعزال على معنى عزل المصالح عزلاً عاماً تعسفياً، ويقوم الاعتزال على معنى قطع خيوط التواصل مع الآخر والاعتراف بكينونته، ذات المعالم الواضحة والمطالب المحددة والتعبيرات المشروعة والمفهومة، عن هذه الذات التي باتت منسجمة مع مصالح ذاتها.

انقطاع الرسمي عن الأهلي بالذوبان فيه، وتجاوز الأهلي للرسمي ثم التفوق عليه، أمران يزيلان الكوابح الأساسية التي تحد من اندفاعة المكونات الأهلية التي تستحضر نطقها وفق قوالب كلامية هوجاء، وتقدم على ممارساتها من خلال سلوكيات مجتمعية رعناء. لذلك تكون الخلاصات، أو النتائج منافية للمنطق الوطني السليم. هذا في حال وجود آليات الضبط والسيطرة والقياس الوطنية، لكن ذات الخلاصات والنتائج، تكون منسجمة إفرادياً في البداية، مع اللامنطق المجتمعي، أي غير منسجم مع ما هو معروف أو متعارف عليه من تحديدات تفصل بين المنطقي المجتمعي وغير المنطقي، لكن ما يكون لا منطقياً في نقطة البدء، يصير هو المنطق العام الذي يقود اليوميات اللبنانية، وتتحول السياسة وفقاً لذلك، إلى منظومة منطقية قوامها مجموع السلوكيات اللامنطقية الأهلية. منطق من لا منطق، هذا هو واقع الحال الذي يقود السياسات اللبنانية الراهنة!

لدى عرض المجموع اللامنطقي تفصيلياً، تصير العناوين ذات أسماء، وتصير ذات قوى ومصالح، أي أنها تصبح حية متحركة وناطقة. ولكل عنوان لا منطقي طائفة، كذلك لكل عنوان مذهب، وتحت راية الطائفة والمذهب هناك كتل أهلية سائلة تضفي على الوقائع صفات سيولتها، وتمنع في الوقت ذاته إعادة تشكل هذه الوقائع تشكلاً صلباً عاماً. وهي، أي الكتل، لا تسمح بالتشكل الصلب إلا ضمن بيئتها الصافية، التي سبق تعريفها بأنها تمارس الانعزال والاعتزال، عندما يتعلق الأمر بالاتصال بالوسط الاجتماعي الأوسع، وبالمدى الوطني الأشمل.

ولنناقش، ماذا تفعل الشيعية السياسية اليوم غير توتير ذاتها، وغير شحن توتير ذاتها بمنوعات من سياسات التوتر مع الآخرين؟ جردة مواضيع داخلية تكسو موضوع التوتر والتوتير بعض حلله التي منها، عرقلة انتخاب رئيس للجمهورية، وعرقلة سير سياسة النأي بالنفس عن الأزمة السورية، وعن باقي الأزمات العربية، وعرقلة استعادة السياق الوطني الطبيعي بعد التحرير، من خلال ابتكار معارك تحريرية خارجية لا يد للبنانيين فيها ولا مصالح.. ضمن سيرة العرقلة هذه، لا تعتني الشيعية السياسية الحالية إلا بتماسك جمهورها، ولا تهتم إلا بتماسك خطابها ورسوخه في أذهان هذا الجمهور. هذا يفسر عمليا معنى الانعزال والاعتزال، حيث الفئة مكتفية بذاتها، وواعية ذاتها، وتعمل لذاتها.

لا يعني ذلك أن هذه الفئة لا تدير علاقات مع أطياف من الفئات الأخرى، لكنه يعني الانتباه إلى أن إدارة العلاقات هذه تتم في صيغة استتباع، ومن ضمن مفهوم علاقة التوظيف والاستخدام، ويقودها هاجس الحذر من الانقلاب، وسياسة الاحتياط من احتمالات الإرتداد على ما هو معقود من توافقات.

والحال، أن هكذا سياسة لا تضع هدف الارتقاء بتطوير التفاهمات أو الاتفاقات  نصب أعين سياساتها. وهذا بسبب أنها لا تجد مشتركات عميقة بينها وبين من تستتبعه. لذلك فموضوع السياسة في هذا المضمار يظل طافياً على سطح السياسات، ولا يتطلع إلى الغوص صوب جذورها، لأنه لا يرغب بذلك بداية، ولا يستطيع التفوق على ذاته في نهاية المطاف، وكما هو معلوم فإن فاقد الشيء الوطني العام عاجز عن أن يعطيه.

المسيحية السياسة تجري مجرى جارتها الشيعية السياسية وتقلدها في الأماكن التي تخصها، وفي الموضوعات الموروثة والجديدة اللصيقة بها. المعضلة الأهم التي أصابت المسيحية السياسية كامنة في تخلي هذه الأخيرة عن ميزاتها الكيانية. أهم هذه الميزات هي تلك المتعلقة بموضوع "الهيمنة" التي أمكن للمسيحية السياسية، خصوصاً طرفها الماروني، أن يجمع بعض مقوماتها، وأن يساهم في توليد بعض مكوناتها، منذ إعلان دولة لبنان الكبير، ثم إعلان الإستقلال اللبناني عام ١٩٤٣.

لقد توفر للمسيحية السياسية عامل الانفتاح على "العالم" من خلال الاتصال المبكر بالغرب، ممالك وإمارات ودولاً حديثة. وتوفر لها أيضاً عامل الثقافة والتعليم من خلال "هجوم" الإرساليات الأجنبية. ومع هذين العاملين توفر للمسيحية المشار إليها، العامل الإقتصادي الذي قام على دور الوساطة والمبادلات التجارية. كل ذلك ساعد المسيحية السياسية على تشكيل هيمنة تحلقت حوله المصالح الناشئة للفئات اللبنانية الأخرى التي قبلت بالدور المتقدم للمسيحية السياسية، وقبلت أيضاً، ولو بشكل مؤقت، بحصتها من ضمن تراتبية الحصص الوطنية. هذا الدور المحوري أضاعته المسيحية السياسية وفرطت به، خصوصاً من خلال السياسات التي اتبعتها بعد منتصف سبعينيات القرن الماضي ،عندما تمسكت بسياسة الاستئثار، وهي تتابع التفريط اليوم بعدما توزعت كملاحق على تشكيلات الاسلام السياسي، الموزع على شيعية سياسية ظافرة، وعلى سنية سياسية موزعة وحائرة.

الاكتفاء بما تقدم، لا يعني إهمال الكتل الأهلية اللبنانية الباقية، بل هو يحث على استحضارها، ويدعو إلى وضعها على طاولة البحث والتدقيق والاستنتاج. ما يجعل ذلك ضرورياً، هو أن اللوحة اللبنانية "المفهومة" غير موجودة في الأذهان، وما هو غائب عن الذهن، يمتنع على الحضور إلى ساحة التشخيص والانتقال من ثم إلى ميدان الممارسة والفعل. وكل ما هو غير مفهوم عائم، وكل ما هو غير مجسد سائل. لذلك، لا بد من جهد "فهمي" يساعد على الحد من سيلان الأوضاع الجارية، التي ما زالت ينابيعها الأهلية تتدفق يومياً، بمياه لا مفهومة، لكنها مياه مسمومة، بل عالية السمية الوطنية والمجتمعية.