لماذا تنهار المباني في بيروت؟

هدى حبيش
الجمعة   2016/12/09
استحوذ الإستثمار على عقلية المشرع اللبناني (خليل حسن)
مقاربة ملف الإيجارات القديمة على أنه نزاع بين مالكين ومستأجرين قدامى، تنزع عنه جوانب إنسانية، حقوقية واجتماعية لا تستهوي مفتعلي هذا النزاع. أي المشرع اللبناني والطبقة السياسية النافذة مالياً وسلطوياً. لكن، أيضاً، تبدو بيروت مدينة غير قابلة للسكن، وتقصي سكانها عن حقهم بتحديد شكل المدينة والحي الذي يعيشون فيه وهويتهما، لما لذلك من تأثير على ماضيهم وحاضرهم. ومن هذا المنطلق، تنتقد المهندسة المعمارية والباحثة المدينية عبير سقسوق-ساسو وزميلتها الأستاذة في التصميم الغرافيكي في الجامعة اللبنانية والباحثة المدينية نادين بكداش، وهما مؤسستا شركة "Public Works" المدنية، قانون الإيجارات القديمة الجديد، الذي شرع في العام 2014 من دون أن يستند إلى أي أسس علمية.

استحوذ الإستثمار عقلية المشرع اللبناني منذ وضعه قوانين البناء والتنظيم المدني، في خمسينات القرن الماضي، في حين أهملت محددات أخرى كالنسيج العمراني والحياة الاجتماعية والصحة والبيئة. تشبه سقسوق إعمار بيروت في هذا السياق بـ"العملية الحسابية" التي أدت إلى "المضاربة العقارية". لم يغب عامل الاستثمار عن قانون الإيجارات الجديد أيضاً، بل ترى بكداش أن اتخاذ القرار في مسألة الإيجارات القديمة كان هدفه "فتح السوق العقارية لهدم المباني القديمة والبناء من جديد". 

انعكست هذه الرؤية العقارية الاستثمارية على المعاش اليومي، خصوصاً عبر ارتفاع أسعار العقارات بشكل جنوني في ظل غياب سياسة عقارية في لبنان. فـ"في بلد تغيب عنه الضمانات الاجتماعية والصحية، باتت العقارات تشكل مصدر غنى، خصوصاً للمالكين الذين اشتروا عقاراتهم خلال التسعينات، وصارت تساوي الآن أضعاف أسعارها في تلك الفترة"، تقول بكداش.

بالنتيجة، تغيرت أحياء كثيرة في بيروت، وتحولت من مساكن لمحدودي الدخل إلى مساكن للأقلية الثرية. ويمكن النظر إلى منطقة الباشورة كمثال حي على هذه الظاهرة. والباشورة التي تقع على مشارف وسط بيروت، مازالت تحافظ على نسيجها العمراني القديم، غير أن هذا الواقع لن يستمر طويلاً، إذ بدأ تدمير مبان عدة فيها، عدا عن إنشاء "Beirut Digital District" الذي "من شأنه، بالإضافة إلى قانون الإيجارات الجديد، أن يزيل هوية المنطقة"، وفق بكداش. حي البدوي أيضاً مثال عن الأحياء التي شهدت هذا التغير، بعدما كان ملجأ لمحدودي الدخل لموقعه الجغرافي القريب من الوسط والبعيد منه في آن معاً. وتشهد منطقتا الطريق الجديدة والمصيطبة اليوم فورة إلغاء لمستأجرين قدامى.

يهدد إخلاء السكان القدامى وتغير السكان النسيج العمراني والحياة الاجتماعية للحي، خصوصاً إذا تحول المبنى، بعد هدمه، إلى مبنى مترف بطوابق عدة. ويحصل هذا التغير عادة بعد انتقال الملكية القديمة للمبنى إلى مالك جديد يكون في معظم الأحيان مستثمراً ثرياً هدفه شراء مجموعة من الأراضي، أو شركات عقارية تملك المال والنفوذ الضروريين للتفاوض مع المستأجرين القدامى وتدمير المبنى وبناء "مبان شاهقة" مكانه، وفق تعبير "أشغال عامة". 

ويمكن اعتبار ما يحصل في منطقة المصيطبة مثالاً آخر على هذه الظاهرة. أما تعرض مبنى "آل عيتاني" إلى التصدع وخطر الإنهيار، فهو دليل على فساد هذا المبدأ في التملك والاستثمار، وعدم جدواه. فهذا المبنى التسعيني قام على أنقاض ثلاثة بيوت قديمة، وبني بالطريقة المذكورة أعلاه. وهذه الحالة ستكرر في أحياء أخرى للسبب نفسه.

لا تخلو عمليات الإخلاء، وفق بكداش، من تكتيك يسعى إلى التخلص من السكان القدامى بهدف هدم المبنى القديم واستثمار العقار ببناء مبان أحدث وأكثر ارتفاعاً. وإذ يعرف المستأجرون القدامى ما ينوي المالكون فعله في عقاراتهم، يرفضون الخروج من مساكنهم حتى ولو كان الخطر جدياً. وهذا ما حصل في مبنى فسوح في الأشرفية، بسبب غياب المسكن البديل وأي ضمان لعودتهم. 

من ناحية أخرى، يشكل النظام الضريبي في لبنان عاملاً مؤثراً في عملية "المضاربة العقارية" الحاصلة، إذ إن غياب الضرائب على الأبنية غير المشغولة تدفع المالكين إلى الابقاء على شققهم من دون خسارة تذكر. "ما يؤدي إلى التفكير في المكان كسلعة وليس مكاناً للسكن"، وفق سقسوق وبكداش.


* على مدى سنتين عملت "Public Works" على بحث في 6 أحياء في بيروت، وهي ستعرض أبرز نتائجه، بالإضافة إلى عرض صور وروايات للمستأجرين في هذه الأحياء، في 14 كانون الأول في "Mansion".