لبنان في سياسته الحربية

أحمد جابر
الأحد   2015/03/01

شيئاً فشيئاً يعتاد اللبنانيون تداول مفردات سياسية جديدة، من قبيل الإرهاب والعدو التكفيري، ومداهمات مناطق مشبوهة، وتفكيك خلايا إرهابية أو اعتقال أفراد خلية في طور التشكل. وشيئاً فشيئاً يعتاد اللبنانيون سماع أخبار يومية تتحدث عن أعمال قتالية، من قبيل الهجوم على مواقع الجيش، وتفكيك عبوات متفجرة مزروعة على طرقاته، والسيطرة على موقع عسكري متقدم من قبل العدو الإرهابي، ثم دحر العدو عن هذا الموقع وتطهيره. وفي اليوميات، يتحول الكلام السياسي والعملاني، إلى سياسة رسمية من جهة أولى، وإلى مزاج شعبي يتشكل في إزاء الممارسة والكلام، من جهة ثانية.

رسمياً، تتكون وجهة شعبية غالبة، يطغى على مزاجها وحديثها الانتصار الوطني للمؤسسة العسكرية، ويترجم ذلك في صيغة دعم القوات المسلحة في تصديها للاعتداءات التي تطالها، وللتهديدات المحتملة التي قد تستهدف الحدود والداخل، كما يترجم الأمر في الدعوة إلى سياسة تسليحية، تؤمن للجيش وللقوى الأمنية ما تحتاجه من أسلحة مناسبة. هذه الوجهة المركبة من كلام وأفعال، يواكبها في الداخل بعض خلاف، ظاهره قليل، لكن قلة المعلن لا تخفي كثرة الذي يدور في كواليس الكلام.

نقطة ارتكاز الخلاف تتمثل في رفض وجهة الانخراط القتالي الرسمي من أساسها، وفي التحذير من الانزلاق إلى متاهة التدخل وتبعاتها، وفي اعتبار النشاط الميداني للجيش انحيازاً إلى طرف لبناني دون آخر، أو على الأقل تغليب وجهة سياسية داخلية على أخرى. هذه آراء خلافية موجودة، يختلف التعبير عنها وفق "لجهات" الناطقين بها، وبالاستناد إلى القاعدة السياسية التي تبنى عليها لهجاتهم.

وعلى الطريقة اللبنانية، لا بأس من التذكير بأن الانقسام حول السياسة الرسمية كانت موضع نظرات سياسية خلافية دائمة بين اللبنانيين، ولا بأس من التذكير أيضاً، بأن كل سياسة رسمية تقرأ بعيون المواقع الطائفية الداخلية، وبعيون موازينها وحصصها وتوازناتها. في السياق الاسترجاعي ذاته، يجب القول، أن العام 1975 كان عام انفجار القراءات، مثلما كان عام الاحتراب الانقسامي الذي ما زال يمسك بحياة اللبنانيين، ويشد على خناقها، وقد يبلغ بها حد الاختناق، إذا ما توالت الأحداث التي تشحن "الشدّ" بمزيد من عوامل الضغط والانقسام.

بناءً عليه، تجدر ملاحظة أن ما كان افتراقياً سابقاً، ما زال على حالة الافتراق حالياً، وما كان متحركاً على طرقات ومسالك "بلد"، على شيء من متانة البناء، بات الآن متغلغلاً بين هواجس بلد يحاول متانة جديدة، رغم كل ما يحيط به من اهتزازات. لنقل الآن، أن عنوان الجيش يلامس حداً من الإجماع، خاصة في مسألة الحفاظ عليه، وهذا أمر مختلف عن أعوام الحرب الأهلية اللبنانية، حيث كانت "الجيوش" المتعددة تسعى إلى تسييد جيوشها، وإلى إلحاق المؤسسة الوطنية بها، من خلال إلغاء دورها، أو من خلال السيطرة على هذا الدور واستتباعه.

لا خطر من هذه الجهة على الجيش الوطني، لكن ذلك لا يلغي استشعار المخاطر الناجمة عن السياسات التي تحول لبنان إلى بلد في حالة حرب، على حدوده مع سوريا. أن يتحول لبنان ببنيته المعروفة، وبآراء بنيه المعلومة، وبمناعته وقدرات تماسكه، غير الغائبة عن الإدراك، أن يتحول لبنان هذا إلى بلد مقاتل، أمر له تداعياته على مجمل السياسات الداخلية، وعلى القدرة الاقتصادية، وعلى أشكال القراءة التي ستظل لصيقة بمعاني التحول القتالي، وبالهواجس التي تستدعيها هذه المعاني لدى كل الأفرقاء.

القول بأن لبنان يسلك مسلك البلد المقاتل، يعبر عن حقيقة الواقع، فما هو ماثل للعيان عبارة عن جبهة قتال محددة، لها طولها وعرضها وعمقها، وعلى هذه الجبهة تخاض جولات استنزاف يتخذ أغلبها طابع الإغارات السريعة، على طريقة حرب العصابات، مما يستدعي القول أن حسم المعركة حسماً نهائياً، أمر مستبعد بالنظر إلى جغرافيا القتال، وإلى الإمكانية اللبنانية المعروفة في هذا المجال.

ولنقل أن هناك من يستدعي لبنان إلى هذا القتال، خاصة من جانب "القوى الظلامية" السورية، لكن لنعترف أيضاً أن هناك مسؤولية لبنانية تقتضي عدم الانزلاق الكامل في الاستجابة لهذا الاستدعاء. ولعل أقل المخاطر كامنة على الجبهة، وأخطرها موجود في العواصم البعيدة عنها. في هذا المجال، تجدر ملاحظة أن السياسة الحربية تبحث عن مصادر تمويلها، وعن مخازن إمدادها، وكل ذلك موجود خارج الديار اللبنانية.

ماذا يعني ذلك؟ ليس أقل من إلحاق لبنان بسياسات مموليه، أو بحسابات من قدم له السلاح، وبخطط من يوفر له الغطاء الإقليمي والدولي لاستعمال هذا السلاح. هكذا، ومن مدخل ضرورة التصدي للخطر الرابض على الحدود الشرقية، مع سوريا، يلحق لبنان بالخارج.

هذا الإلحاق، ليس إلحاقاً بالجملة، أي لكامل السياسة اللبنانية، بل هو إلحاق لجزء من السياسة، لأن ثمة قوة عسكرية أخرى لها مرجعيتها الإقليمية المعروفة. عليه، لا يتوحد لبنان في الإلحاق، ولو بدا موحداً عموماً في دعم جيشه والدفاع عنه، على خلفية الشعور بالخطر المصيري الذي يصيب الوطن إذا ما وهن الجيش، وعلى خلفية أن السكوت عن "ازدواجية السلطة" الموزعة بين الدولة وسواها، أفضل من الخراب الناجم عن السيطرة الفئوية، وعن اندلاع مختلف الردود القتالية، على هذه السيطرة، رفضاً لها وتصدياً لشروطها ولسياساتها.

اللبنانيون لا يواجهون أمرين "أحلاهما مر"، بل يعيشون ضمن شروط وأمور "جلّها علقم"، ومرارتها تتوزع على الحياتي والاجتماعي، وعلى الأمني والاقتصادي، وعلى ديمومة الاستقرار، الذي ما زال مقبولاً رغم كل "هناته غير الهينات".

ينشد اللبنانيون سلماً داخلياً، ليستعيدوا قدرتهم على مباشرة تأسيسية لسلام وطني ومجتمعي حصين، وعلى الطريق ما زالت تتوالى أمامهم وقائع السياسات التي لا تبشر ببزوغ طلائع الاستقرار. حفلات التناهب الطائفي والمذهبي آيات على ذلك، ومن الآيات هزيمة المدافع في الجرود البعيدة. سياسات شتى، تمنع حتى الآن تلك السياسة الوطنية المسؤولة المنشودة، التي ما زالت صعبة المنال.