نحو ملامسة السياسة..ومباشرتها

أحمد جابر
الأحد   2015/10/04

بعد ثلاث محطات شعبية حاشدة، بدا التحرك الاحتجاجي وكأنه يحط الرحال تدريجيا على أرصفة الهدوء. الوقوف ليس مثلبة تسجل على مسلك التحرك، إذ أن الحركة لذاتها ليست مطلوبة، والحركية لا يمكن أن تكون سياسة بذاتها، فالحركية تصبح من صنف الشعارية، والإسمان ،الحركي والشعاري، ينتسبان في أغلب الأحيان إلى سياسة الهروب إلى الأمام ،أي إلى عدم القدرة على صياغة المهمة المباشرة المطلوبة، والعجز عن اجتراح خطوات عملية تشكل دليلا مرشدا للمحتجين، والقصور المطلبي ولاحقا السياسي، دون قرع أبواب الربط التواصلي بين ماكان للتحرك، وما يمكن ويجب أن يكون له من زخم ومن أسباب النجاح .

التريث الذي أبداه بعض أطراف التحرك الشعبي يندرج في خانة الإيجابية، وما يعزز هذه الإيجابية استغلال وقت التريث في عملية مراجعة الأيام الحاشدة، وفي تقييم أساليبها وخطبها وتنظيمها، وكل ما يتعلق بيومياتها التي كانت ذات محصلات إيجابية على وجه التعميم. لم بصدر حتى الآن ما يمكن اعتباره مراجعة واسعة من جانب مجموعة شعبية مشاركة، أو من " ائتلاف ً مجموعات، لكن ماهو معلوم ومتداول أن عددا من الأطراف التي نشطت في أيام التحرك تطرح أسئلة مراجعة، وتدعو إلى المساهمة في ورشة كلام متعددة الأطراف، بحيث لا يكون الرأي أحاديا، وبحيث تستمر سياسة استبعاد الاستئثار أو المصادرة أو الإقصاء، التي ربما راودت بعض مجموعات التحرك، تحت وطأة دغدغة الذات بحلم الاستفراد بالتحرك الاحتجاجي، فإذا تعذر ذلك كان الهدف البديل وسم التحرك بميسم مجموعة بعينها، لجهة الشعار والأسلوب وتحديد هدف وزمان ومكان النشاط القادم .... ودائما وفق الاجتهاد الخاص المفرد ، الذي يقود تطلب الاستفراد أو وهم الفوز به.

لقد بدا لبعض المجموعات ، خاصة بعد التحرك الذي شهده يوم عشرين أيلول، أنه من الممكن إدامة الاحتشاد الاحتجاجي في الشارع، لذلك كانت المبادرة إلى التجمع أمام مبنى وزارة الطاقة، وربما قبلها التجمع أمام شركة الكهرباء، لكن النشاطين سرعان ما ظهر أنهما غير كفيلين بإضافة زخم إلى ما سبقهما من نشاطات وازنة، وما بان من قوة دفع بدا متراجعا عن قوة دفع الأيام الاحتجاجية السالفة، لذلك كان لا بد من أن تراود واقعية التريث أصحاب " نظرية النشاطية " الدائمة. الخلاصة الواقعية في هذا المجال تتمثل في اعتبار ما جرى وما سيجري من تحركات شعبية سلسلة مترابطة لها محطاتها، ومسار طويل متحرك له وقفاته التقييمية، وله خططه اللا حقة ووسائل تعبئته الملائمة، وقوى حشده التي تنزل إلى ساحاته بوضوح، وتعود منها بوضوح أعلى كحصيلة للممارسة العملية التي تكون كفيلة بتظهير نقاط الخطأ ونقاط الصواب.

لكن ماذا عن المستقبل القريب للتحرك الاحتجاجي؟ وماذا أيضاً عن فتح الأفق السياسي أمام التحرك في المستقبل الأبعد الذي يطمح إليه كل المساهمين في اليوميات الاعتراضية الصاخبة؟ ثم ماهي الملفات والمهمات والقضايا الكفيلة بجعل يوم التحرك غير شبيه بغده؟ أي كيف يتجاوز التحرك معضلة المراوحة في المكان؟ وكيف يتجنب القفز في مجهول الزمان السياسي؟ كلا الأمرين يفضي إلى الخسارة الموضعية المحدودة، ويكون مفتوحا على الخسارة المتعددة المصادر المفتوحة، وهذا مما يجب السعي الحثيث لعدم الوقوع في تعقيداته.

في مباشرة البحث عن الاهتمامات الانتظامية فالتنظيمية لأيام التحرك ونشاطاته، سيكون مطلوبا إعمال الذهن في ضرورة تشكل " مركز توجه" عام ، يكون قادرا بقواه وشعاراته وخططه على جذب وإمالة التحرك عموماً، بحيث يكون ممكنا تجاوز حالة التشرذم التي تطغى على البدايات العملية والكلامية، ويكون متاحا أيضاً توليد سمة غالبة للتحرك تعطيه إسما ومضمونا وصفة، تلخص الواقع الفعلي والملموس للمكونات العامة للقوى المتحركة، بحيث لا يتم تجاهل الإئتلافية بين القوى ولا تعددية مصادرها ولا تنوع مشاربها، ولا تغيب طبيعة القوى الاجتماعية المنخرطة في الأنشطة العامة، وبحيث يتم الحرص على طابع العلاقة الديمقراطية والتفاعلية والتشاركية التي تجمع بين كل الأطراف، وإلى كل ذلك، وربما كان هذا هو الأهم، يحب أن يكون واضحا وغير ملتبس الطابع الاجتماعي العام للحركة، وموقع التحرك في المعادلة الوطنية الداخلية. ما تجدر الإشارة إليه اجتماعياً، هو أن التحرك منحاز إلى المصالح العامة لأغلبية اللبنانيين الشعبية، وما يجب التأكيد عليه بالتالي هو أن التحرك يحتل موقعا صراعيا في مواجهة ائتلاف الطبقة السياسية الحاكمة والمتحكمة، هذه التي تقود وترعى وتنفذ سياسات عامة تخالف مصالح الأغلبية العظمى من اللبنانيين، وتلحق الضرر بكامل حاضرهم ومستقبلهم، في السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع والمواطنة وتكوين المشتركات الوطنية العامة... مما يجعل كامل المصير الوطني مفتوحا على أفدح الأخطار.

الكلام الذي سبق يجعل النقاش مفتوحا على أمرين عامين ، من ضمن عدد من الأمور الهامة الأخرى.الأمر الأول يتعلق بكيفية ربط المطلبي الآني بما يجري من ملفات وطنية وسياسية أخرى .هذا الربط يقوم على فهم التكامل بين مواضيع العملية الاحتجاجية الاعتراضية ،وعلى وعي ترابط مسائلها. الوعي والفهم يجعلان التمييز متاحا بين ما يضعه المحتجون في خانة النضال المباشر، وبين ما يؤجل آلى أيام شعبية قادمة ، لكن التمييز هذا لا يصل ، ولا يجب أن يصل ، إلى الحد الذي لا يرى الربط المكين بين سائر الملفات اللبنانية، أو إلى حد عدم الاهتمام بهذا الربط ، بسبب من قصور التحليل أو بسبب من اجتناب مقصود بدواعي التحذير من " المغامرة" أو المخاطرة أو ركوب مركب المجهول.سيكون ذلك مفهوما، لكن سيظل الفهم مشدودا إلى ضرورة رؤية الترابط الشامل للرد عليه برؤية شاملة مترابطة ، وستظل الواقعية المطلبية والسياسية ماثلة وهي تميز بين ما يمكن إثارة الاعتراض عليه الآن ، وما يجب تأجيل الضغط من أجله في وقت اجتماعي وسياسي مناسب متأخر.

يفتح ما تقدم على الأمر الثاني الذي هو موضوع توسيع القاعدة الاجتماعية للتحرك ، ذلك أن نجاح كل حركة مرهون إلى حد بعيد برفدها بقوى اجتماعية متعاظمة ، تنزل إلى ساحة الفعل تباعا ، وتغادر موقع التردد باضطراد . من جملة ما يساهم في توسيع القاعدة الاجتماعية أمران هامان: التوصل إلى صياغة رؤى معترضة عامة حول السياسات العامة المعمول بها من قبل الحكم ، ومراكمة نجاحات موضعية كنتيجة للتحركات الشعبية المتعددة. الوضوح يشكل مصدر قوة لكل المهتمين بالتحرك ولكل المساهمين في نشاطاته، والنجاح يعطي دفعا للجميع ، ويساهم درسا عمليا مفيدا عن ضرورة الاحتشاد المنظم الواضح خلف مطالب محددة بدقة ، وعن جدوى الضغط على المتحكمين بمصير البلاد والعباد.هذه العملية الاجتماعية السياسية من شأنها أن تعيد تشكيل استقطاب اللبنانيين حول مصالحهم ، وتفك تباعا استتباعهم لطوائفهم ومذاهبهم ، أي أن هذا مسار توحيدي للبنانيين يعاكس العملية التفتيتية التي ما زالت مفاعيلها التدميرية تنعكس وبالا على كل البنية الوطنية.

يخوض المحتجون اليوم معركة طويلة النفس لإعادة استيلاد لبنان. إدراك ذلك يوجب إدراك الانفتاح اللازم والواجب والضروري على السياسة الوطنية بمضمونها الشامل. ماذا عن السياسة الاجتماعية للتحرك؟ ماذا عن السياسة السياسية؟ وماذا؟ أسئلة من المطلوب طرحها ، ومن الخطأ تأجيلها أو عدم استحضارها ... لتكن الأسئلة حاضرة، ولينخرط الجميع في ورشة صياغة الردود .