الحق في الخوف

رشا الأطرش
الأربعاء   2015/01/28
"انتصار" المقاومة هذه المرة سيكون أفدح من "انتصار" 2006 (أ ف ب)
الخوف، الخوف، الخوف.. ولا شيء غيره. الدم يسيل في داخل الرأس، كما قد يسيل منه. والحياة تتوقف مجازاً، كأنها توقفت فعلاً. الخوف أيضاً حرب.

الرصاص ينطلق ابتهاجاً. نسمع أهزوجة خراب، تستبق موتنا لتحتفي به "مجيداً"، غصباً عنا. كأننا نسمع زغاريد شهادة لم نخترها، والشهادة لزام علينا كالقدر الأحمق، وكولادتنا في هذه الأرض الملعونة بتاريخها.. والناس مَن يصنع التاريخ.

لا يعود مهمّاً التحليل السياسي أو حتى العسكري: إن اعترفت إسرائيل بقتلاها وعددهم، أم لم تعترف... إن ألمح "الرقم 1" الذي عنون به "حزب الله" بيان تبنيه عملية شبعا، إلى مزيد من العمليات اللاحقة، أم إلى "رسالة انتقامية" وحيدة قد يقف عند حدّها الرد الإسرائيلي، ومن بعد تاليتها الطوفان.. إن اجتمعت الحكومة اللبنانية، أم لم تنبس بحرف رسمي "جامع".. إن تبين أن في الانتخابات الإسرائيلية، أو الرأي العام الإسرائيلي، حوافز، أو مهدئات، لحرب تلوح في السماء وتفوح روائحها من شقوق الأرض.. إن كان حزب الله، و"جمهوره"، يحتمل حرباً.. إن كان الحرس الثوري الإيراني هو الأقوى، أم المتحمسون للتفاوض مع الغرب على الملف النووي الإيراني.. هذا كله لا يهم.. إنه الخوف المتسرب من ذاكرة لم تلتئم جراحاتها مهما مرّ من زمن..

الحرب، الحرب، الحرب.. لا أحد يحتملها، حتى كفكرة. لا أحد يسعه تخيل حلولها إلا في صورها الأقسى التي، رغم كل ما علمنا وذقنا، لن تكون إلا أعمّ وأفدح وأمضى من كل مضاربها السابقة... الحرب وانتظارها، الحرب وتوقعها، الحرب والرعب من طيفها المترائي، شبحها القريب.. لبنان اليوم أكثر هشاشة من 2006.. "انتصار" المقاومة هذه المرة سيكون أفدح من "انتصار" 2006. لا قيمة لـ"معلومات" أو "تحليلات دقيقة". إنها المخيلة التي تترقب الحرب، المخيلة أرملة الوطن والدولة، ثكلى الأمل، ناعية الغد. القلب مخيلة. النفوس متنبئة بعنف أعمى، من دواخل الناس، تُسيل ما بقي في العروق من صمود في بلد طارد لأبنائه قبل اللاجئين إليه. مَن ذا يحتمل بعد؟

لبنان اليوم أكثر تشظياً من العام 2006 الذي تلى سلسلة اغتيالات استهلّت برفيق الحريري. مُخردق بتداعيات سوريا المشتعلة بأزمتها، وبضلوعه في تلك الأزمة رغماً عنه، بانقسامه السياسي وحتى "الأخلاقي".. حتى الفساد عليه خلاف! برئاسته الشاغرة بفعل فاعل، بأمنه المتدلي عن حافة هاوية، بحروبه الأهلية الصغيرة المستمرة "بنجاح كبير"، بحكومته التي لا يسعها إلزام فريق ممثلٍ فيها بقرارها "النأي بالنفس"، وبجيشه المستهدف والمنهك عند الحدود، حدود الإرهاب الآتي من خلفها كما الذاهب عبرها.

العملية بتوقيع "مجموعة شهداء القنيطرة". عُلِم.
كأن أولئك "الشهداء" سقطوا في أرضهم. كأنهم كانوا هناك، يزرعون الأرض زيتوناً، يبنون بيوتها، يرتاد أولادهم مدارسها. بإذن ممّن كانوا هناك؟ ولمصلحة من؟ وعلى من يزايدون؟ "مجموعة شهداء القنيطرة" تطلق، من لبنان، انتقامها لاغتيال عملية غير لبنانية، في أرض غير لبنانية لم يُسأل أهلها إن كانوا يريدونها، كما لم يُسأل اللبنانيون عن العملية الانتقامية، ولا سابقتها، ولا سابقة سابقتها...

لا منطق في فصل "المقاومة" هذه، عن انخراط "حزب الله" طرفاً مقاتلاً في سوريا، ولا عن الحراك الإيراني وصراعاته في الداخل والخارج إذ تدار "على أرضنا". ننحّي جانباً مَن حمل رشاشاً واعتلى سطح مبنى لإطلاق رصاص ابتهاجٍ بِرُعب مواطنيه مما هو آت. هذا خرّيج ميليشيات لا حوار مع عقله أو ضميره. لكن ثمة منطقاً "قومياً"، فوق – وطني، مجرداً من السياسة والاجتماع والتاريخ وحتى الواقعية، ويقدّم نفسه كـ"صواب سياسي هادئ" فيتجاوز حق شعب بـ"حقوق الشعوب"... هذا المنطق يسهّل الفصل التبسيطي. من الخفة تأييد "مقاومة" إسرائيل بالمطلق، بما في ذلك انطلاقها من شبعا هذه المرة، بمعزل عن التورط الدامي لـ"المقاومة" في سوريا.. في حين أن العملية لا تستحي باسمها الواضح والصريح.

شبعا ليست أرضاً محتلة أو مُختلف على "جنسيتها"، فحسب. شبعا القرار 1701 الذي تحقق بدم كثير وخسائر لا تحصى. شبعا رَدّ على عملية القنيطرة، وليس على اعتداء مسّ بالسيادة اللبنانية. شبعا تُحمَّل راية "شهداء" إيرانيين وعناصر حزب لبناني هو فعلياً فوق – لبناني.. في أرض سورية النفوذ فيها لنظام ما عاد نظاماً، بل هو طرف يؤجج حرباً أهلية مع شعبه. شبعا تلميع صورة ملوثة بدماء سورية، وتهجير قسري، ودمار مبين. شبعا ورقة ضغط في تجاذبات نووية، لعبة خطيرة مع إسرائيل التي لا تؤمَن وحشيتها – في غزة كما في لبنان – يلعبها مَن لا يؤمَن للبنانيتهم ولا حتى لرؤيتهم السياسية المحكومة بعسكرة مطيّفة رأسُها في مكان وجزماتها في مكان آخر.

حتى لحظة كتابة هذه السطور.. ما زالت الحرب الإسرائيلية على لبنان احتمالاً متأرجحاً بين التصريحات والتسريبات، الإسرائيلية وغير الإسرائيلية. إن قامت، فالويل لنا جميعاً. وإن انحسرت، فما زال الويل قائماً في منطق مدافع عن "مقاومة" لا تنذر إلا بخراب مؤجل مستقى من أجندة بلا رادع.

حق الشعوب في المقاومة؟ والحق في شراكة القرار بالحرب أو السِّلم؟ بل في بداهة العيش بلا خوف مضافٍ إلى سائر المسنّنات اللبنانية؟

الخوف، الخوف، الخوف.. بات أسلوب حياة، عصِيّ على الاعتياد، وتلافيه ترف ليس في متناول مَن لم يحظَ حتى الآن بتأشيرة الهجرة.