عن وليد الذي أصبح يحب ان يسمى"أبو ميلاد"

عزمي بشارة
الإثنين   2024/04/08

حسبت أن جرائم إسرائيل في غزة، وما نتعرض له خلالها من صور معاناة الناس، ولا سيما الأطفال، وأهوال الحرب التي طردت العادي من حياتنا سوف تحصننا من الحزن الشخصي أبدًا، أـو ستجعل منه شعورًا محرجًا يحسن إخفاؤه. وكاد ولوغ دولة الاحتلال في دم غزة يغطي على جرائمها اليومية في قرى ومدن الضفة الغربية، وما مع أنها تجاوزت ما عرفته الضفة الغربية خلال انتفاضاتها. ويحتاج المرء إلى إجبار نفسه على تجاوز جدول الاهتمامات المصنّع إعلاميا لكي ينتبه إلى استغلال الاحتلال الحرب على غزة لمراجعة كل شيء، بما في ذلك حتى منجزات الأسرى الفلسطينيين في السجون المتعلقة بإدارة الحياة في السجن، والتي فرضوها بنضالاتهم. لم تشهد السجون الإسرائيلية هذه العدد من حالات القتل تحت التعذيب منذ العام 1967. هذا فضلا عن سلب السجناء حقوق تفصيلية مهمة حصلوا عليها بمشقة بالغة، بعد مطالبات ونضالات منظمة دامت عقودًا.

حين تعاقب الأصدقاء في فلسطين ليلة أمس على إبلاغي بخبر وفاة وليد دقة اجتاحني حزن عميق ليس فقط بسبب علاقة صداقة مديدة ومحبة متبادلة، بل لأننا فشلنا في التسبب بإطلاق سراحه حيا. أراد ذلك بشدة، كانت غاية مناه يتنسم هواء الحرية، وأن يشم شعر طفلته ميلاد التي ولدت وهو خلف القضبان، وأن لا يحدد السجان له دقائق اللقاء معها. لم تجمعه بالسجن علاقة رومانسية من أي نوع. رام الحرية. وأرادت إسرائيل الانتقام، ولم يكن ممكنا عقلنة هذا الدافع لديها، برفض تحرير أسرى يحملون الجنسية الإسرائيلية خلال صفقات المخطوفين، او حتى التفاوض بشأنهم. مع ذلك أملنا أن يطلق سراحه في الصفقة القادمة، لكن الموت سبقنا إليه.

لا أنانية في هذا الحزن، فبعد خروجي من فلسطين أصبح التواصل متقطعا من خلال زوجته ورفيقة دربه المخلصة سناء، ومن خلال أخيه أسعد الذي كاد يكرس حياته من أجله. وفي مكالمته الأخيرة معي من هاتف محمول مهرّب إلى السجن، أجهش بالبكاء حالما نطقت باسمه من الجانب الآخر. تحدثنا طويلا على الرغم من تأثره، وتحفظي لعلمي أنهم يتيحون تهريب هذه الهواتف للتنصت على مستخدميها. الحزن كله من أجله، إذ لم يخطر ببالي أني سألتقيه ثانية. فقد خفق قلبه بأمل الحياة للعيش ولو مدة قصيرة خارج السجن. استحوذت عليه تفاصيل الحياة خارج السجن التي تبدو للناس عادية وتبدو له حلما بعيد المنال.

الروح الحرة لا تألف السجن، ولا تعتاد الانشغال بتفاصيله الصغيرة. وقد تعرفت إلى سجناء كثر لم يكن ممكنا أن يمضوا الوقت الطويل دون أن تستحوذ عليهم هذه التفاصيل. أحببتهم جميعا. أما وليد فكلمني عنها أيضا، ولكنه انشغل بتفاصيل الحياة خارج السجن، بكل ما طرأ عليها ولم يدركه قبل أسره. من السياسة الكبرى وحتى تفاصيل الحياة في بلدته، باقة الغربية، ومحيطها. لم يكن الانشغال بالدراسة والقراءة التي جعلت منه مثقفًا داخل السجن، هدفًا، أو رغبة بالحصول على شهادة جامعية، بل نوعًا من التحرر بتجاوزٍ معنوي لفضاء السجن و"روتينه". وكنت شريكًا له في هذه العملية وغيرها.

كان التوق إلى الحرية دافع هذا الرجل المهذب الرقيق الدمث للصمود والاستمرار بالعيش داخل السجن طوال ثمانية وثلاثين وعاما. وما كان ممكنا أن يعيشها متصلة، فهذا هو الموت بعينه، بل جزأها بنشاطه واتصالاته إلى أطوار. ولذلك ففي حياة وليد في الأسر مرحلة ما قبل التعرف إلى زوجته المناضلة في قضايا حقوق السجناء التي وقعت في حبه وأحبها، وبعدها. لم يكتف بلقاءاتنا، خشينا التنصت، فكتب لي رسائل لا تنتهي حول هذا الموضوع، أعقبتها توجهات متكررة إلى السلطات للسماح بعقد القران في السجن؛ ثمة مرحلة ما قبل ولادة ميلاد وبعدها، وقبل بداية الكتابة للنشر وبعدها، وقبل تعرف الناس عليه من كتاباته وبعدها. وربما طور قبل أن نلتقي وبعده. صنع لنفسه إذا حياة ذات إيقاع مختلف عن إيقاع السجن، حياة تتحدى الجدران، تتجاوزها. بعواطفه الجياشة وحبه غير المحدود للناس من حوله حوّل عيشًا كان يمكن أن يكون صمودًا انتظاريًا، أو كآبة رتيبة يملي إيقاعها سجان أقل إنسانية وثقافة منه إلى حياة زاخرة بالحياة.

أذكر كيف جاءني في إحدى الزيارات الأولى بعد أكثر من عشر سنوات على سجنه مقترحا أن نغير استراتيجية النضال من أجل إطلاق سراح السجناء بحيث نشدد على حقوقهم بوصفهم مواطنين. كان يتاح لنا في حينه أن نجلس مع عدد من الأسرى سوية (قبل أن يحرمونا منها ويشددوا إجراءات الزيارات، وأصبحت أزورهم فرادى ما يستغرق فترات طويلة). اتفق معه البعض وخالفه البعض الآخر. اقتضت الخطة التي وضعناها أن نطالب بتحديد فترة حكم المؤبد بالسنوات مثلما يعامَل السجناء الإسرائيليون، بحيث تخفَّض فترة الثلث بعد تحديد المدة، كما يعامل السجناء الإسرائيليون أيضا. فعلى دولة الاحتلال أن تختار، لا يمكنها رفض إدخال أسرى فلسطينيين في صفقات التبادل مع مخطوفين بحجة أنهم مواطنون في إسرائيل فلا يجوز لأي تنظيم فلسطيني أن يتكلم نيابة عنهم؛ وأن تأبى من ناحية أخرى معاملتهم بوصفهم مواطنين لهم حقوق المواطنين.

وضعنا الاستراتيجية وعملنا على تنفيذها سنوات طوال، حتى حددت فترة المؤبد إلى خمس وثلاثين عاما وأربعين عاما في بعض الحالات. ولكن سلطات الاحتلال أبت أن تخفض الثلث وظلت على تعنتها في رفض إدخالهم في صفقات التبادل. فشلنا. وفي هذه الأثناء خرج من السجن أسرى أنهوا مدة "الحكم المؤبد" المحددة هذه. وبقي وليد فقد مددت له سنتان إضافيتان. مات في السجن كما خشي أن يحصل. استشهد كما يقال. 

لم يرد وليد أن يستشهد في السجن، أراد الحرية. آذاني موته كثيرًا لأني تخيلت حسرته على فراش الموت وحيدًا أسيرًا. لم يكن من غاية يمكن أن يفهمها العقل البشري لتركه يموت وهو يعاني من المرض في السجن بعد أن أنهى محكوميته الطويلة. إنه دافع الانتقام الذي يقلل البعض من أهميته في فهم سلوك دولة الاحتلال، وتفسير تصرفات أفراد جيشها الهمجية في غزة. انتقموا من وليد ليس فقط لتهمة أنكرها، بل أيضا لأنه كان يمثّل تحديًا وجوديًا لهم. إنه تجسيد لرفض الانقياد لهم، والامتناع عن الامتثال لكل ما يعنيه الأسر المؤبد. كرهه السجانون ومدراء السجون بسبب نشاطه ولغته وحيويته وأيضا بسبب ثقافته (فمن يحسب نفسه؟!)، وربما حتى بسبب ابتسامته التي لم تفارق وجهه.

كانت كل مرة التقيته فيها عناقا طويلًا ووداعًا على أمل لقاء كان يلح علي ويعاتبني حين يتأخر.

 وداعا وليد دقة. وداع لا يشبه الوداعات التي فارقناها.