عندما قتلت إسرائيل حافظ الأسد

عمر قدور
الثلاثاء   2023/06/06

أقل من ثلاثة أسابيع كانت المدة التي فصلت بين إتمام الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان ووفاة حافظ الأسد؛ في البداية قوبل بالتشكيك الإعلانُ الإسرائيلي عن الإنسحاب من طرف واحد، بلا اتفاق مع الأسد وحزب الله. وحتى مع بدء إجراءات الإنسحاب استمر إعلام الأسد في تشكيكه في نوايا تل أبيب، وعندما بانت جديتها صرخ واحد من أكبر مسؤولي الأسد واصفاً مغادرة القوات الإسرائيلية: إنها مؤامرة. لم يبدأ الحديث عن الانتصار على إسرائيل في الجنوب إلا مع القول أنه غير كامل، لأنها لم تنسحب من مزارع شبعا، لكن الأوان كان قد فات وتسببت الطعنة الإسرائيلية بمقتل حافظ الأسد، حسب طرفة شاعت في أوساط المعارضة السورية آنذاك، والمعنى المضمر فيها أن الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب أودى به.

كان لقاء الفرصة الأخيرة بين الأسد وكلينتون، في جنيف أواخر آذار 2000، قد انتهى بالفشل لأن الأول رفض صفقة تتضمن انسحاباً إسرائيلياً من الأراضي السورية المحتلة حتى الحدود الدولية، وأصرّ على الانسحاب حتى خطوط الرابع من حزيران 1967. وكان إعلام الأسد قد هاجم بشدة الرئيس الفلسطيني  ياسر عرفات بسبب تصريحه عن وجود جزء فلسطيني من الجولان، بمعنى عدم أحقية الأسد بالمطالبة به بموجب الحدود الدولية السابقة على النكبة. بعبارة أخرى، طالب الأسد في جنيف بما هو حق للفلسطينيين الذين لهم مسار مستقل للتفاوض، وغاية المطالبة كما فهمها آنذاك كلينتون وإيهود باراك عدم رغبته في إبرام اتفاق سلام. هو، حسب الطرفة نفسها، لم يكن يريد تجرّع سمّ الانسحاب الإسرائيلي من الجولان.

يصادف أننا في ذكرى هزيمة الخامس من حزيران 1967، وقيل الكثير في سنوات ما بعد الثورة عن تسليم حافظ الأسد الأراضي بلا قتال، حيث كان وزيراً للدفاع حينها. والكثير مما كُتب لا تنقصه الخفّة بالإيحاء إلى مؤامرة حيكت في ذلك الوقت، ضَمِن فيها الأسد حكمه وحكم أسرته لقاء تخلّيه عن الجولان، وهكذا يكون تفضيل قادة إسرائيل بقاءَ ابنه في السلطة استئنافاً لتلك التفاهمات السرية. هذه الرواية المبسَّطة جداً تستند إلى أن الهمّ الأكبر لقادة إسرائيل هو الاحتفاظ بالأرض، يساعدهم في الجوار عملاء لهم، من دون التركيز الواجب على كون بقاء الاحتلال الإسرائيلي في الجولان والجنوب هو أيضاً مطلب أسدي، وبما يتعدى الحسابات والرغبات الإسرائيلية.

كان إيهود باراك يريد الانسحاب من الجنوب بالتفاهم مع الأسد، لكنه صار متيقناً منذ لقاء جنيف المُشار إليه من أن الثاني لا يريد أية صفقة ولا يريد الجولان ولا الجنوب. هو لا يريد بالمطلق زوال الاحتلال، وفي حالة الجنوب كان هناك عامل إضافي هو وجود قوات الأسد في لبنان، وكان جزء من "شرعية" وجودها يكمن في التلطي خلف وجود الاحتلال الإسرائيلي. أما أولوية السلطة "ثم الوصاية" على تحرير الأرض فلا نعرف ما إذا كانت إبداعاً أسدياً خالصاً، فالتمرين الأول عليها أتى مباشرةً إثر هزيمة حزيران بالقول أن إسرائيل فشلت في تحقيق هدفها وهو إسقاط الحكم في دمشق والقاهرة.

ربما لم تكن هناك حالة مشابهة استمرت لعقود، تأتي فيها شرعية الإمساك بالسلطة من الاحتلال، ويكون الطرف الخاضع للاحتلال أكثر حرصاً على ديمومته من المحتل نفسه. لا داعي لنظريات المؤامرة، ولا لاتهامات العمالة الرخيصة، فالأمر يتعلق بفقدان الشرعية في الداخل، وتوسّلها من خلال وجود العدو، وما يفرضه وجوده من حالة طوارئ تمنع استحقاق الأسئلة عن شرعية السلطة. بهذا المعنى، لم يرفض حافظ الأسد صفقة سلام غير مرضية، ولو لُبِّيت مطالبه كلها لاخترع مطالب أخرى كي لا يبرم أية صفقة مهما كانت.

بالطبع ليس لتعنّت الأسد الأب أسباب مبدئية، باستثناء ما يتعلق منها بالإمساك بالسلطة، والسلام مع إسرائيل بالنسبة له مؤامرة، على نحو مختلف لما يراه جذريّون تجاه إسرائيل، فهو ضمناً يرى السلام مؤامرة تستهدف حكمه. لكي نرى أهمية ومركزية الاحتلال، يكفي تصوّر انتهائه، والكارثة التي ستقع على الأسد إذ يضطر إلى البقاء بلا "عدو خارجي غاشم"، وبلا مؤامرة دولية تُحاك للإطاحة به بسبب صموده أمام ذلك العدو. من المرجَّح أن يكون صعباً جداً تصوّرُ الأسد أعزل من كل تلك الشعارات، ومطالَباً بأجوبة عن قضايا الداخل؛ هذا مناقض جذرياً لطبيعة حكمه.

على الضد من الأسد، أتى إعلان باراك "المحسوب حينئذ على الجيل الجديد" عن الانسحاب من الجنوب بهدف واضح معلن، هو تجنيب مواطنيه كلفة الوجود العسكري هناك. ودشّن سابقتين؛ الانسحاب بلا اتفاقية أو تفاهم، و"التضحية" بسمعة جيشه حفاظاً على حيوات عناصره. هذا التغيّر في تل أبيب لم يكن مما يروق للأسد، لأنه يخرج عن قواعد اللعبة التي اعتادها، وبنى مُلْكه عليها. لقد رشح عن مسؤولين إسرائيليين، مع فشل المفاوضات، أن الأسد كان يطرح ما ليس له صلة بعملية التفاوض، وعبّروا عن قناعتهم بأنه لا يريد شيئاً سوى ضمان توريث الحكم. والحق أن التوريث وفشل المفاوضات متلازمان، إذ لا يستوي أن يستقر وريثه من دون شرعيته كوريث للصمود والعداء لإسرائيل... إلخ. 

واليوم إذ يظهر الوريث قد وضع وراءه، بالمجازر ومختلف أنواع الوحشية، سؤالَ الشرعية، إلا أن إعادة تدويره لا يمكن أن تكون بمنأى تام عن السؤال. وفي الخلفية منه أن المطبِّعين معه والمتحمسين هم من المطبِّعين والمتحمسين للتطبيع مع إسرائيل أيضاً، وحكّام الأخيرة لا يوفّرون فرصة للقول أن قواعد اللعبة القديمة لم تعد مقبولة، وحتى طيرانهم الذي يقصف من دون رادع لا يتحرك من ضمن القواعد السابقة، بل لتعزيز أخرى جديدة مع طهران قبل الأسد. كأنهم، وهم يريدون بقاءه، غير مستعدين لمساعدته على البقاء باستئناف تلك اللعبة القديمة.

من هنا أيضاً صعوبة أو استحالة انفكاك بشار عن إيران، فذلك لا يتعلق فحسب بالقبضة القوية للأخيرة. التحالف مع طهران بُني على خطاب الممانعة، الضروري لسلطات كافة المنتفعين منه، ووجود بشار في الحلف ازدادت ضرورته بقدر حاجته إلى السردية عن تصديه للمؤامرة، رغم كونها غير قابلة للتصديق حتى من أشدّ مؤيديه غباءً. في الواقع، ليس هناك كذبة أخرى كبرى، وإن تكن مفضوحة، تمنحه قدْراً مماثلاً من الشرعية.

بالمقارنة بين زمن الأب والابن، لم تعد إسرائيل مضطرة لأي انسحاب، ولم يعد الجولان جزرة فوق الطاولة، بينما بقي تحتها وفوقها العديد من العصي والمطالب الإسرائيلية. سمحت الظروف للأب باللعب بين طهران وتل أبيب، أما الابن فليس له ترف اللعب، وقد أطاحت الثورة عليه بالقليل مما كان له. الدرس الوحيد الماثل أمامه من الجهتين هو درس إسرائيل في عام 2000، ومفاده أن من لا يملك الشرعية يسهل قتله "ولو مجازياً"، حتى إذا كان أفضل الأعداء.