حفلة ردح بأربعين مليون دولار

جهاد بزي
الخميس   2023/03/09
بعد نحو سنة على الصفعة الشهيرة، كريس روك يرد أخيراً على ويل وجايدا سميث (المدن)
للتذكير:

حدث أنه، وبتاريخ 27 آذار من العام 2022، وخلال حفل توزيع جوائز الأوسكار الرابع والتسعين، والذي يبث مباشرة على أميركا والعالم أجمع تقريباً، ألقى مقدّم الحفل، الكوميدي كريس روك، نكتة حول الرأس الحليق للممثلة جايدا بينكيت سميث، ولم يستسغ زوجها النكتة فصعد إلى المسرح بخطى واسعة وواثقة بينما روك يضحك، وصفعه بكل ما أوتي من عزم وقوة، فمال جذع الرجل حتى كاد ينطوي على نفسه، قبل أن يعود إلى وضعه العمودي شخصاً آخر، وقد تلقى على الأرجح أكبر صدمة في حياته.

لحظة حطت راحة ويل سميث بكامل عنفها على وجه كريس روك، دخلت الصفعة صناعة الترفيه في أميركا كأكثر الأحداث غير المتوقعة إثارة في تاريخ التلفزيون. وإذا كان هناك من اهتمام في الإعلام حول الحرب التي كانت طازجة في أوكرانيا، فقد تلاشى ما تبقى منه مع المشهد العظيم. لم يعد لدى الأميركيين ما يتابعونه إلا هذا الحدث "الهائل"، الذي، كعادة كل نقاش أميركي آخر، سرعان ما وصل إلى الحديث عن العرق، وصور الأفارقة الأميركيين النمطية، وشعر المرأة السوداء، وفساد صنعة الترفيه وزيف نجومها، و"غضب" الرجل الأسود الذي كان آخر ما يريده الأفارقة الأميركيون كوصمة تطال نجومهم ويثبتها هؤلاء في عراك على المسرح الأيقوني لهوليوود. هذه التي لطالما اتهموها بالعنصرية، ولمّا وصلوا إلى خشبة أكاديميتها، تعارك المرشح الأوفر حظاً لقطف نجومية الليلة، مع مقدمها، وكلاهما ينتميان إلى الأقلية الأكثر تعرّضاً للظلم على أنواعه في تاريخ البلد. أحرجا بخفتهما الأقلية برمتها أمام خصمها التاريخي المسيطر على كل مرافق أميركا، من الترفيه إلى وول ستريت إلى الفضاء..

تابع الأميركيون لاحقاً، بلا تضامن ولا شفقة، دموع ويل سميث، جلده لذاته، اعتذاراته المتكررة التي وصلت إلى حد التذلل المهين. تابعوا العقوبة القاسية التي خرجت بها الأكاديمية، وانتظروا رد كريس روك، وانتظروا، وانتظروا، وبقي هذا على صمته، ورفضه إجراء أي مقابلة ليشرح الصفعة من وجهة نظر المتلقي.

صمته، لسنة كاملة، كان أذكى ما فعله هذا النجم- رجل الأعمال. لو أنه رد في اليوم التالي، أو بعد أسبوع، لانتهى الحدث في حينه. لكن كريس روك لاعب محترف. جعلهم ينتظرون سنة إلا قليلاً حتى جاء رده مباشراً، (كما الصفعة المباشرة) على هواء نتفلكس، قناة البث التدفقي التي بثت عرضاً حياً لأول مرة منذ تأسيسها. لم يكتف بعرضه فحسب، بل جلب أصدقاءه وصديقاته النجوم، كوميديين وممثلين، ليمضوا نصف ساعة قبل العرض في تبجيله، ونصف ساعة أخرى بعده لتحليله، كأن العرض هو المباراة النهائية في كأس العالم. حين أطل من بالتيمور، أتى انتقامه مذهلاً فعلاً، لا في مضمونه، بل في درجة عصر الصفعة حتى آخر نقطة فيها. انتقام بارد مخطط له بعناية، ممنهج وبارع، يمكن تدريسه في كليات إدارة الأعمال بعنوان مثل كيف تنتقم بأربعين مليون دولار وأكثر..

حكى كريس روك تسع دقائق فقط عن الصفعة، في آخر العرض الذي عنونه "غضب انتقائي". تسع دقائق نال عليها، من نتفلكس، عملياً، أربعين مليون دولار، هي ثمن هذا الحفل وواحد آخر لاحق. هو نجم مكرس لا شك، لكن الصفقة لم تكن لتعقد لولا إصراره على الصمت ووعده بالتحدث لأول مرة عن الحادثة في العرض المشهود. ذكاء إن لم يكن فطرياً فهو يحسد على دائرته الضيقة من الناس الذين يثق بنصائحهم ويعمل بناء عليها.

ظل لعام كامل يضخ الدم في الحدث المرتقب. وفي الساعة التي سبقت هجومه الساحق على ويل سميث وزوجته، لم تكن الكوميديا التي قدمها فوق العادة، بل وُصفت في الإعلام الأميركي بأنها أقل جودة من أعماله السابقة. عادية. هي المكونات التقليدية للسخرية التي يجيدها روك، يسمي فيها الناس بأسمائهم، يتهكم عليهم بطريقته التي تميل إلى أن تكون فظة، والكوميديا تبرر كل شيء، ومن هؤلاء الناس ميغان ميركل وعائلة كارداشيان وغيرهما. لم ينس بالطبع التبجح بملايينه، لأنه عمل مذ كان طفلاً، مع أن العمل في الصغر ليس مقياساً لأن يصير المرء مليونيراً، خاصة في مجتمع الأفارقة الأميركيين. لم يقدم مضموناً جريئاً أو مختلفاً خلال الساعة، إلا أنه راح يبني فكرة الغضب الانتقائي الذي سيتهم به ويل سميث في النهاية، كما كان متوقعاً من العنوان. حين وصل إلى غريمه وزوجته، انفجر غضبه "العفوي" مبالغاً في عنفه، كأنه تلقى الصفعة قبل نصف ساعة من دخوله المسرح، وليس أن هذا الغضب مكتوب ومتدرب عليه مرات قبل العرض. لا بأس، هذا هو الشو بزنس أصلاً. في انفلاته، نعت كريس روك ويل سميث أكثر من عشر مرات بالعاهر، ونعت جايدا بالعاهرة، وذّكر بخيانتها له مع صديق ابنهما، ونبش ماضياً يعتبر سحيقاً حين طلبت منه أن يمتنع عن تقديم حفل الأوسكار في العام 2015 لأن زوجها لم يرشح لجائزة أفضل ممثل (الصحيح أن الاعتراض كان في لغياب أي مرشح أسود بشكل مطلق وسمي الحفل "الأوسكار أبيض بشدة"). نزل كريس روك إلى الدناءة لينتقم. لم يستطع رد الصفعة بصفعة في لحظتها، فقرر بعد سنة كاملة أن يشتم ويل سميث ويعايره برجولته، وبخيانة زوجته له. واقفاً على قمة نجوميته، وفي لحظة قوته المطلقة، لم يعفُ عند المقدرة، بل لجأ إلى لغة الشوارع، بدلاً من أن يسمو على خصمه، ويسحقه للمرة الثانية إذ يسامحه، ويقول إنه تخطى الحادث برمته، وأنه، في نهاية الأمر، درسٌ جيد في مساوئ "الغضب". كان بإمكانه أن يكون نبيلاً، هو الذي تضامن الجميع معه حين تلقى الصفعة، ومدحوا سعة صدره وتعامله باحتراف مع خطيئة سميث.. نبله، ولو نفاقاً كان سيصب في مصلحة صورته نفسها، كأفريقي أميركي وكنجم عالمي. آثر الوضوح والصراحة في التعبير عما يعتمل في داخله من حقد لم يشف منه بعد.

لا بأس. كريس روك ليس المهاتما غاندي على أي حال. هو رجل أعمال. والموقف النبيل، لو اتخذه، لاستحق تطييباً لخاطره، وتقدرياً لشهامته، لكن الصفعة كانت ستنتهي هنا. بدرس أخلاقي. النبل لن يكون مدويّاً في حسابات الشاشة والمشاهدات وردور الفعل على السوشال ميديا كما الهجوم الساحق الذي يحبه الأميركيون على طريقة روكي بالبوا الذي دائماً يخرج منتصراً. سيكون مخيباً لآمال من انتظروا مشهد مصارعة حرّة يحمل فيه المصارع خصمه ويلوح به في الهواء قبل أن يرميه أرضاً ويقفز فوقه معلناً انتصاره. هذا ما يريده الجمهور وهذا ما قدمه البطل العائد لينتقم. وهو فعلاً انتقام كامل، فيه ما فيه من حبكات أغاثا كريستي، تتصاعد فيها الإثارة حتى لحظة الختام.

صمته كان حدثاً جعل خروجه عن صمته أخيراً حدثاً آخر سيشغل الإعلام الأميركي في الفترة المقبلة. والعرض سيحقق مشاهدات لا شك ستكون وازنة. والرد أشعل نقاشاً جديداً، وأبقى الصفعة حيّة في الأميركيين، ومادة نميمة ممتازة للإعلام. وقد تبرع بإذكاء النار حين حمّل جايدا المسؤولية عن تصرفات زوجها الرعناء، وهي تهمة تلقفتها أميركيات كثيرات بوصفها عداء موجهاً ضد النساء السود، ولها مصطلحها المحدد (Misogynoir).

مراراً أعلن كريس روك رفضه لأن يكون "ضحية"، لكنه لجأ في آخر سطر قبل أن يرمي الميكروفون على الأرض بعنف، إلى التملق لمجتمعه والتظلم لديه. فهو لم يرد الصفعة بصفعة لأنه أسود "جيد"، يواجه أسود "سيئاً". أسود لديه أهل ربّوه وقد علّموه ألا يتعارك مع أسود آخر أمام البيض! مع أن العبارة كانت فعلاً خاتمة ذكية جداً وتجاوب معها الجمهور الحاضر بموجة هستيريا من التصفيق والصراخ والضحك، إلا أنها، بعد قليل من سماعها، تبدو أنها ليست في محلها قط. ففي نهاية الأمر، إن لم يكن آخر العرض عراكاً عنيفاً مع رجل وامرأة من عرقه وتحت عيون العرق البيض، فما هي إذن حفلة الردح المديدة هذه التي قدمها كريس روك طوال الدقائق التسع الطويلة من غضبه الانتقائي المدروس؟