جريمة جنديرس من وجهة نظر القاتل

بهزاد حمو
الثلاثاء   2023/03/28
جانب من جنازة القتلى الأكراد الأربعة في جنديرس في 21 آذار الجاري (أ ب)
في مثل هذه الأيام قبل خمسة أعوام، كان القاتل ذاته يتجول في شوارع عفرين وهو يرفع رأس تمثال كاوا الحداد متباهياً؛ وسط احتفاء إعلامي وشعبي بفعلته. وقبل أيامٍ فقط، داس بقدمه رأس امرأة كردية داخل منزلها في جنديرس. قالت الشاهدة بأنهم سكتوا وسكت معهم الإعلام ونشطاء المنطقة كعادتهم.

بين جريمة جنديرس الأخيرة عشية النوروز، ومشهد دخول المقاتلين السوريين والأتراك شوارع عفرين وهم يمزقون وجهها الكردي، خمسة أعوام من القتل والانتهاكات اليومية المسكوت عنها بحق سكان المنطقة الكرد. كان القاتل خلالها يتحرك في مساحة مبدئية وشاسعة من التبرير والتواطؤ الشعبي والإعلامي. اليوم، يُراد له أن يحمل عبء المجزرة وحيداً، وأن يُقال عنه: هارب من وجه العدالة!

لطالما كان الانتهاك من وجهة نظر مقاتلي الفصائل السورية المتعاونة مع الاحتلال التركي في عفرين، فعلاً أصيلاً، نابعاً من واقع المعركة ذاتها ووضوح أطرافها وعوائدها.

طمسُ كل ما هو كردي، بالنسبة إليه، وظيفة بنيوية يقوم عليها وجوده، ودرب وحيدة يلتقي فيها غيره من مقاتلي الفصائل العسكرية المتناحرة. اللحظة الفاصلة في حياة سكان المنطقة، لم تبدأ بتحطيم تمثال الحداد وسط عفرين، بل بدأت فعلياً بنجاح الفصائل العسكرية في إلحاق انتهاكاتها بحق المجتمع الكردي، بعجلة اقتصاد الحرب في المنطقة، من خلال تقديم سكان عفرين وممتلكاتهم سوقاً مستباحة للأطراف المحلية وللوافدين الجديد.

إذ يستحطب فصيلٌ عسكري أشجار الزيتون في قرى عفرين، تنقل سيارة، يقودها مهجّر من الغوطة، أطنان الحطب، لتباع أخيراً في إدلب. أو حين يدخل فصيل في نزاع محلي بوصفه قوة احتلال، توفر الحماية والحصانة لطرف على حساب آخر، فتتيح بذلك فرصاً مادية أكبر أو مسكناً جديداً في الضفة السكانية الأخرى من المهجرين والنازحين.

للانتهاك هنا وظيفة تتجاوز المقاتل وبندقيته؛ فعل لازم يُراد به إدارة الاختلال في اللوحة العسكرية والسكانية المركَّبة في الشمال السوري.

من جهة أخرى، لطالما كان يُنظر إلى الكردي، من خلف الأبواب المواربة، وهو يتعرض للضرب في شوارع عفرين وتُسلب أملاكه، باعتباره ضحية عنف فائض لا بد منه، رافق الحالة الفصائلية السورية طيلة سنوات الثورة، واستفحل أخيراً في الشمال الغربي الخاضع لسيطرة الأتراك على وجه الخصوص. وباعتباره شرّاً لا بد منه، فالأفضل والأجدى به أن يقع على رأس الكردي الأعزل. لطالما تُشبَع في المقاتل رغبته الحتمية في ارتكاب الانتهاكات ويمنع تالياً حدوث صدامات مسلحة مع باقي الجماعات الأهلية والتي يحتمي كل منها بسلاح فصيله المحلي. إنها معادلة رابحة لجميع الأطراف هناك.. عدا أصحاب المكان، والذين يجري استهدافهم وفق منطق الصراع، لأنهم وقبل كل شيء مواطنون كُرد وعُزّل وسط بحر السلاح والانفلات. من هنا، حملت الناس قتلاها والتجأت جنوباً، حيث مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام، القوة العسكرية الأضخم والتي سبق لها أن جالت مناطق الفصائل من عفرين إلى الباب.

الغضب اللاحق للجريمة الجديدة في جنديرس من خلال أصوات الأهالي وصرخاتهم أمام الكاميرات، يفصح عن هيجان قومي صريح، عززته المشاعر الكردية المعهودة خلال فترة الأعياد القومية في آذار، ويدعو الانقلاب على حالة الخنوع المستمرة في نفوس سكان المنطقة. الصرخات ذاتها، كانت قد خرجتْ خجولة في استقبال الوفود الإغاثية والطبية التابعة لمؤسسة البرزاني الخيرية والتي وصلت المنطقة في إطار استجابتها لتداعيات الزلزال. حينها خرج أهالي عفرين للمرة الأولى منذ احتلالها ربيع 2018، بأصواتهم وأعلامهم الكردية، يرددون في غفلة عن أعين الفصائل والأتراك، شعارات كردية تدعو التحرر والخلاص وتحيي المقاتلين الكرد.

في الساعات اللاحقة لمقتل الشبان الأربعة، كانت الأم العفرينية المكلومة تصيح في جموع الناس باللغة الكردية، رافضة التحدث بالعربية. إنها رغبة جامحة في دفع المواجهة إلى أقصاها. لكنها قبل ذلك، تأكيدٌ على عدم قابلية "فردنة" الجريمة كما يحدث كل مرة.

وكأن المرأة ومن خلال إصرارها التحدث فقط بالكردية، تزيل الحجاب أولاً عن هويتها القومية باعتبارها ضحية أصيلة، وتشير ثانياً إلى عدو قومي موصوف ومعروف، يتعدّى بضع مجرمين تدعي "سلطات العدو" بأنها تلاحقهم!

في السياق ذاته، انفجرت صفحات الساسة الكرد وقادة المجلس الكردي عقب الحادثة؛ أدانها جميعهم وطالبوا رفاقهم في المعارضة السورية بموقف صريح!

هل يمكن تخيّل "الموقف الصريح" الذي يطالب به الجانب الكردي، شركاءه في الائتلاف المعارض والحكومة المؤقتة، أن يتضمن انقلاباً على السياسة التركية تجاه الكرد في سوريا؟

يجري الحديث على وقع الوقفات الاحتجاجية المستمرة في جنديرس، عن وجوب أو حتى قُرب دخول قوات "بشمركة روج"، وإخراج الفصائل المسلحة من عفرين. القوات ذاتها كانت محور الكثير من التهديدات المبطنة والحلول الممكنة التي أطلقها الساسة الكرد في معرض التعليق على الحادثة. الطرح الآنف، تخبط مستجد، بين "الحالة الوطنية" وفق التعريف التركي من جهة، والتي تتحرك من خلالها الأحزاب الكردية في معالجة الموقف بعفرين وعموم الشمال السوري، وبين الصبغة القومية الواضحة في المطلب من جهة أخرى، بوصفه دعوة صريحة إلى ثورة كردية مستحقة. تتجاوز المعارضة وجمهورها. ولا بد لها- كي تكون ثورةً وكرديةً- أن تصطدم بالأتراك وبمشاريعهم!

الحدث الأخير، لجهة كثافته وحدة مدلولاته، يكاد يكون الواقع اليومي المعاش بالنسبة للسكان الكرد، في ظل هيمنة الأتراك والفصائل السورية المسلحة، من عفرين إلى رأس العين مروراً بتل أبيض. قمع وتسلط وفوقيّة قوميّة مسلّحة، في مقابل مواطنين مكسوري الجناح، تتأجج النيران في دواخلهم، وتكبر كرة اللهب أكثر، أو ربما لن تكبر أكثر من ذلك!

مهما كانت خواتيم جريمة جنديرس، فإنها ومن جانب القتلة لم ولن تقدم جديداً. لكن من جانب الناس، ثمة بيان واضح ومقتضب لمن يهمه الأمر، يمكن فهمه من دون الحاجة إلى فهم اللغة الكردية: نحن من تبقّى، ولأننا أكراد، نبادُ في أرضكم المحررة، وفي خضم حديثكم عن الثورة والحريات.