البوتينية لم تمر في جورجيا

بسام مقداد
السبت   2023/03/11

حتى أمس الجمعة كان إعلام المنطقة، بما فيه الإسرائيلي الناطق بالروسية، يتجاهل كلياً ما يحدث في جورجيا ( الجمهورية السوفياتية السابقة ومسقط رأس ستالين) منذ 7 الجاري من إحتجاجات شعبية عارمة ضد المحاولات "المقنعة" لإلحاقها بالبوتينية. الثلاثاء المنصرم وافق برلمان الجمهورية في القراءة الأولى على مشروع قانون إنشاء سجل "عملاء النفوذ الأجنبي" يقوم بمراقبة نشاطات الإعلام والمنظمات غير الحكومية، ويفرض غرامات على رافضي الخضوع للقواعد الجديدة.  وعلى الفور تنبه الجورجيون ذوو الحساسية العالية حيال كل ما يتعلق بروسيا، لما يحمله مشروع القانون من مخاطر فرض نموذج "روسيا بوتين" على جورجيا، واحتشدوا أمام مبنى البرلمان مطالبين بسحب مشروع القانون من جدول الأعمال وإلغائه في جلسة عامة للبرلمان. إتخذت الإحتجاجات طابعاً عنيفاً، وإشتبك المتظاهرون مع الأمن، وتمت إعتقالات في صفوفهم. تواصلت المظاهرات في 8 الجاري وتمددت إلى مدينة باطومي الساحلية، حسب موقع روسي، ووعد الحزب الحاكم "الحلم الجورجي" في اليوم التالي بسحب مشروع القانون، وليس إلغاءه، وأعلنت الرئيسة الجورجية سالومي زورابيشفيلي (Salome Zurabishvili) بأنها ستضع فيتو عليه في البرلمان.  

حساسية الجورجيين تجاه روسيا يمكن تفهمها، فقد شهدت الجمهورية حرب بوتين الأولى ( بعد حرب الشيشان الثانية) العام 2008 في مطلع محاولاته لإحياء الإتحاد السوفياتي بصيغة جديدة. وأظهرت تلك الحرب مواطن تخلف الجيش الروسي وضعفه بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي، رغم أنه سلخ بنتيجتها عن جورجيا مقاطعتي أسيتيا الجنوبية وأبخازيا. لم تضعف هذه الحساسية مع مرور السنين، بل إستفاقت العام 2019 بتظاهرات أمام البرلمان إحتجاجاً على زيارة برلماني روسي شيوعي وجلوسه على كرسي رئيس البرلمان الجورجي وهو يخاطب النواب، مما دفع نواب المعارضة إلى محاصرة الضيف الروسي وإضطراره للخروج من باب جانبي لتفادي مواجهة المتظاهرين, ونهضت الحساسية هذه مرة اخرى العام 2021، حين تجددت التظاهرات في العاصمة تبيليسي إحتجاجاً على زيارة الصحافي الروسي البارز فلاديمير بوزنر. 

حرب جورجيا 2008 كانت تدريباً للجيش الروسي، بعد الإصلاحات، على حربه ضد أوكرانيا العام   2014 التي تواصلت حتى تحولت إلى غزو شامل حالياً. الجمهوريات السوفياتية السابقة تعاني من قلق دائم من أن تكون التالية على جدول أعمال بوتين في إحياء صيغة جديدة للإتحاد السوفياتي، خاصة مولودفيا وجمهوريات البلطيق.

في العودة للحدث الجورجي المشتعل الآن، نقل الموقع الإعلامي الإستوني POSTIMEES عن بوليتولوغ جورجي تعليقه على الحدث بقوله إن القواعد الجديدة التي تحدث عنها مشروع القانون سارية المفعول في روسيا منذ العام 2012، حين أقر قانون "عميل أجنبي"، والذي سمح للسلطات بتدمير حقوق المنظمات والإعلام والأشخاص.  وفي حال إقراره في جورجيا يمكن للحزب الحاكم أن يتخلى عن المبادئ الأوروبية، ويكرر ما يجري في روسيا اليوم. هذا القانون ليس أوروبياً، بل فرض على المجتمع كقانون روسي برسالة محددة: "نستطيع أن نفعل هنا كما في روسيا". وفهم الناس الرسالة، وهكذا ردوا عليها. أما لماذا ردوا على هذا النحو ، فلإن الحصول على منحة من سفارة الولايات المتحدة أو الإتحاد الأوروبي "هو شرف"، لكن وضع علامة "علينا" جراء ذلك، "فهذه ممارسة روسية واضحة".

الإعلام الروسي الموالي، وكعادته في حال أي إنتفاضة جماهيرية، يبدأ بالتساؤل عن القوى الخارجية التي تقف وراءها، ويرى فيها شبح الثورة الأوكرانية التي أطاحت بصنيعة الكرملين فيكتور يانوكوفيتش وأطلق عليها تسمية "الميدان" (الساحة بالأوكرانية). موقع Vesty الروسي نقل عن صحافي جورجي في 9 الجاري قوله بأن الجورجيين لا ينتفضون بسبب مشروع قانون "بشأن شفافية النفوذ الأجنبي" الذي تم إقراره في القراءة الأولى في 7 الجاري. ويرى أن الغرب، وبالدرجة الأولى الولايات المتحدة، لا يريد فقدان نفوذه في جورجيا، والمنظمات غير الحكومية التي تعيش على حساب الأموال الغربية هي أداة جدية للتأثير على السياسة في جورجيا. وجوهر الصراع الراهن في تبيليسي هو أن الأميركيين يرون في السياسة البراغماتية للقيادة الجورجية إبتعاداً عن القيم التي زرعوها  في جورجيا.

ويرى الصحافي الجورجي أن من لعب دوراً في تنظيم الإحتجاجات، هو أيضاً الإعلام الذي يعني الكثير في بلد صغير مثل جورجيا. ووسط قنوات التلفزة ثمة الكثير منها الذي يخضع مباشرة للمعارضة. وعبر شاشة التلفزة قام الرئيس الاوكراني فلاديمير زيلينسكي بتهنئة المشاركين في الإحتجاج الذين خرجوا إلى الشارع حاملين الأعلام الأوكرانية. 

ويقول الصحافي أن الكثيرين من الروس الذين إستقروا في جورجيا دعموا الإحتجاج، على الأقل في شبكات التواصل الإجتاعي، ومن خلال هذا "يظهر بوضوح ما الذي كانوا يريدونه لروسيا أيضاً". وتذكّر "الميدان" الأوكراني ورأى أن السلطة بقيت مدة طويلة تتساهل مع الإحتجاجات من دون أن تسمح للقوات الخاصة والبوليس "حتى بحماية أنفسهم" خلال أعمال الفوضى. لكنه يؤكد أن قوى الأمن الجورجية بدأت بسرعة إستخدام الوسائل الخاصة التي "تعيد الأمن بسرعة". وإذا واظبت السلطة على مثل هذا السلوك، فسوف تظهر أن السلطة موجودة وأنها لا تنوي الإستسلام، وحينها لن يطول أمر الإحتجاجات بإعتقاده. وإذا إنحنت وأظهرت ضعفها فإن الإحتجاجات سوف تستمر بمسار تصاعدي. 

ويقول الصحافي بأنه لو كان محل المتظاهرين، لكان تذكر ما أفضى إليه "ميدان" كييف، وكيف إنتهى بالنسبة للدولة الأوكرانية. أما كثرة الأعلام الأوكرانية في تظاهرات تبيليسي، فيرى أنها بسبب تواجد الكثيرين من اللاجئين الأوكران والروس الذي غادروا روسيا بعد غزو أوكرانيا، وهؤلاء "اللاجئون" السياسيون يشاركون بكثافة، والعديدون منهم يخرج مع الأعلام الأوكرانية.

موقع Kasparov نشر مدونة بعنوان "الإحتجاج فعّال في ظل الديموقراطية"، وألحقه بآخر ثانوي "في الدول المعادية للديموقراطية والمجتمعات المقموعة، الإحتجاجات الجورجية مستحيلة". تتمحور المدونة حول المقارنة بين روسيا وجورجيا، وتقول بأن المجتمع الجورجي خرج إلى الشارع محتجاً على قانون "عميل اجنبي" المهين. لكن المجتمع الروسي، وحين أقر هذا القانون، لم يخرج إلى مكان. 

تقول المدونة أن جورجيا ديموقراطية على الرغم من كل ما يشوبها، توجد معارضة ويوجد برلمان تدور فيه نقاشات صاخبة ونواب يؤيدون الإحتجاجات. وحتى الرئيسة عبرت عن دعمها. لكن، وفي إشارة متهكمة الى ما تردده السلطة الروسية في قمع الإحتجاجات، تقول بأن الرئيسة في تصريحها لم تبد " مناصرة للقانون، أو كمّ الأفواه.. أو أن رؤوساً ستطير"، فهي لا تملك السلطة لذلك. 

وفي مقارنة مع المجتمع الروسي، تقول المدونة أنه في يوم ما كان هنا (روسيا) الكثير من مناصري الديموقراطية، وليس في العواصم فقط، بل وفي الأقاليم، وليس الأغلبية الساحقة، بل ما يكفي لإنتخاب شخص ديموقراطي. لكن ما حدث لاحقاً كان غريباً. كان الناس يريدون تحسين اوضاعهم وحقوقهم وحريتهم. وبدلاً من ذلك حصلوا عى الإحباط الذي ساعدت البروباغندا بنشاط في تعميمه. 

وفي ما بدا تبريراً لتقاعس المجتمع الروسي على مناهضة ديكتاتورية بوتين، تشير المدونة إلى عدم نهوض البرتغاليين ضد ديكتاتورية سالازار والإسبان ضد فرانكو، لتكرر أنه في الدول المعادية للديموقراطية والمجتمعات المقموعة تستحيل الإحتجاجات على غرار الجورجية. وترى أنه لا ينبغي توجيه الإتهام لأحد، سوى لأولئك السادة الذين يسمون أنفسهم "ليبراليين موالين للنظام" الذين أرادوا "تحديثاً سلطوياً" و"بينوشيه الروسي".