أميركا:محنة اللاجئين بين السياسة والعاطفة

محمد العزير
الخميس   2023/01/05

... وفي اليوم الأول من سنة جديدة أفاقت ولاية فلوريدا على خبر وصول أكثر من 500 لاجئ غير مسجل الى شواطئ جزرها الجنوبية مستخدمين قوارب مطاطية أو زوارق صيد قديمة أقلتهم من كوبا وجزر الكاريبي القريبة، وفيما كان الاهتمام الرسمي والإعلامي منصبًا على معرفة جنسيات واحوال الواصلين في موجة متصاعدة من المهاجرين لم تشهد الولاية مثيلًا لها في السنوات العشر الأخيرة، كان عشرات الالاف من المهاجرين ينتظرون في مخيمات وتجمعات عشوائية على الضفة المكسيكية لنهر ريو غراندي للعبور الى مدينة دلباسو في اقصى جنوبي غرب تكساس على الضفة الأميركية للنهر الذي تحول في الأشهر القليلة الى أنشط معبر لطالبي اللجوء.

بين المشهدين اللذين يمثلان عينيتين بسيطتين من مأساة المهاجرين، يتجلى عقم سياسة الهجرة الأميركية التي أجهز على ما تبقى منها الرئيس السابق دونالد ترامب خلال عهده، لتتحول الى كرة ملتهبة يتقاذفها الحزبان الديمقراطي والجمهوري لأغراض تعبوية وانتخابية، في ظل انقسام تشريعي يمنع التوصل الى حلول عملية ويضع العبء على القضاء الذي يحاول ملء الفراغ التشريعي والتنفيذي حسب أهواء محاكم صارت فعليًا، وفي مفارقة غريبة، الطريق الأسرع لمنع تطبيق القانون عبر قرارات تستند الى سوابق قديمة عادت الى الحياة مع انتشار وباء كوفيد 19 ويتم اعتمادها لحرمان طالبي اللجوء من حقوقهم المكرسة في القانون الأميركي الذي يُلزم سلطات الحدود استقبال طالبي اللجوء وتسجيلهم ومباشرة النظر في ملفاتهم للبت فيها.

إذا كان تسييس المسألة يسهّل على المسؤولين من الحزبين التبرؤ من واجباتهم والمزاودة فيها، فإن نظرة سريعة على الواقع القائم تبيّن أن الكل غير مستعد أو غير قادر على معالجة ملف انساني متشعب. ففي حين عمدت الإدارة الجمهورية السابقة الى ارتجال تدابير تعسفية وغير إنسانية في السنوات الثلاث الأولى من عهد ترامب لإبعاد أو احتجاز طالبي اللجوء وفصل الأطفال عن ذويهم، انتهزت فرصة انتشار الوباء واعتمدت في خريف العام 2020، البند 42 من قانون الصحة العامة الصادر عام 1944، لترحيل المهاجرين بالقوة عن الحدود بحجة منع انتشار الأمراض المعدية. استبشر المهاجرون خيرًا مع وصول جوزيف بايدن الى البيت الأبيض، كونه حوّل ملف الهجرة الى لازمة في خطابه الإنتخابي، لكن بعد سنتين على مباشرة مهامه، لا يزال يعتمد سياسة ترامب، ويجد في قرارات المحاكم مخرجًا قانونيًا يؤجل استحقاق إيجاد حل صار أكثر بعدًا الآن، بعد حصول خصومه الجمهوريين على الغالبية في مجلس النواب، ما يعني انعدام اية فرصة لإقرار قانون جديد. بينما قررت المحكمة الدستورية العليا الشهر الماضي تمديد العمل بالبند 42.

يساهم العقم الأميركي معطوفًا على استمرار تدهور الأوضاع المعيشية والأمنية في أميركا الوسطى والكاريبي وكوبا وفنزويلا والبرازيل في مفاقمة الوضع الإنساني لعشرات الالاف من الباحثين عن حياة أفضل في الولايات المتحدة، والذين ينتهي بهم المطاف الى ظروف غير مؤاتية في المكسيك، حيث يتجمعون في مخيمات عشوائية تستبيحها العصابات المسلحة والمهربين وتجار البشر والمخدرات بينما تبدو حكومة المكسيك التي قبلت أكثر من مليون لاجئ السنة الماضية، والمؤسسات الإنسانية والدينية غير قادرة على استيعاب الاعداد الكبيرة، وتركز خدماتها القليلة التمويل على القاصرين والأطفال وذوي الإحتياجات الطبية الذين يتمكنون من الوصول الى مراكزها.

يصعب تقدير الاعداد التراكمية للمهاجرين المنتظرين على الحدود الجنوبية، لكن رقم المبعدين بموجب البند 42 خلال السنة المالية التي انتهت في أيلول 2022، يعطي صورة أولية مجتزأة، حيث تجاوز المليونين وسبعمئة وثمانين الفًا، بزيادة مليون شخص عن 2021، فيما يبلغ عدد العابرين الى دلباسو في تكساس يوميًا حوالي 15 الفًا، عدا عن الذين ينجحون في التسلل عبر الحدود الشاسعة، وبلغ عدد طالبي اللجوء الذين منعوا من الدخول أربعة ملايين وسبعمئة ألف. ومقابل ترحيل أكثر من 72 الفًا من داخل اميركا، ينتظر 321 الفًا البت في طلباتهم.

هذه الأرقام على ضخامتها هي النتيجة المحققة لست سنوات من الكيدية والعشوائية والعنصرية تراكمت خلالها اعداد المهاجرين الذين لا يملكون سوى الإنتظار لأن عودة أكثريتهم الساحقة الى بلدان المصدر غير واردة، مع أن آمالهم التي انتعشت بوصول بايدن تتبدد، كما تتبدد أحلام اللاجئين المسجلين عبر المفوضية الأممية العليا لشؤون اللاجئين، والذين لم تستقبل منهم إدارة بايدن سوى 11 الفَا السنة الماضية، وهو ما يمثل أقل من تسعة بالمئة من مجموع الـ 125 الفًا الذين أعلنت انها ستستقبلهم، واقل مما استقبلت إدارة ترامب نفسها. 

في الهجرة الى "أمة المهاجرين" كما تقول ادبياتها، لا فارق جوهريًا بين حزبي أميركا. نجح اليمين المتزمت في تحويل المسألة الى "خوف مصيري" على الديموغرافيا البيضاء أوروبية الأصل، التي تستبعد ذوي الأصول اللاتينية والملونين، فيما يتوارى الليبراليون خلف خطاب عاطفي لا يأوي لاجئَا ولا يستقبل مهاجرًا. سياسات آنية لن تقتصر آثارها على المدى المنظور، بل يخشى خبراء الاقتصاد والأكاديميون من أن تؤدي الى حرمان أميركا من الرافد الأساس لنموها وازدهارها وتفوقها. لكن لا العواطف ولا المخاوف تعني شيئًا لمن ينتظرون في ظروف مناخية ومعيشية سيئة على الجانب الآخر من الحدود.