الإنزواء الكردي بوصفه نضالاً

بهزاد حمو
الإثنين   2023/01/30
احتفالات بالنوروز في بلدة القحطانية بالحسكة (غيتي)
لأمهاتنا دور في بناء شخصيتنا السياسية، كما للغة البعثيين من حولنا وللأسلاك الشائكة على الحدود التركية الدور ذاته. نمضي ليالي الشتاء محدقين في جدران المنزل حيث يختبئ المُخبر المفترض كما أكدتْ أمّنا، ونحن نستمع إلى أغنية كردية ممنوعة أو حديث سياسي يستمد تشويقه من عناصر أسطورتنا ذاتها عن البطل الخارق المحاط بالأعداء والخونة، والذي ما أن ينهض من كبوة حتى يسقط مرة أخرى. فينزوي إلى جباله لفترة، ليعاود المضي في دورة السقوط التالية.

ليس الآخر في حدود فهمنا السياسي عدوَّاً يمكن تطويع مصالحه والمناورة معه، أو حتى الانقلاب عليه.. بل هو قدرٌ جاء ليقتلنا وهذا ما ينجح فيه غالباً. إنها قسمة سياسية غير عادلة، تمنح الكردي أدوار البطولة فيما ينتصر أعداؤه دوماً.

لا مشهد أكثر تكثيفاً، لقابلية المجتمع الكردي السوري على الانكفاء وتقبل أقداره، من مشهد اليوم التالي لاحتفالات النوروز؛ حيث ينسحب الجميع بعد يوم وليلة قومية طائشة إلى منازلهم وحياتهم الرتيبة حذرين، لتسرح سيارات الأمن وتلتقط من تشاء من نشطاء ليلة الأمس، وسط صمت مشهدي يفشي تواطئاً غير معلن حتى مع الأحزاب الكردية، والتي استنزفتْ كل طاقاتها النضالية طيلة ثلاثة أشهر سابقة في التحضيرات، ولم تجد نفسها معنية يوماً بمنع أو حتى تأخير حالات الاعتقال أو معالجة آثاره. ما يستدعي حضور ذهنية وعدّة سياسية مغايرة، تتمرد على التعاطي الأمني والسياسي لأجهزة النظام مع الحدث، ومع الحراك الكردي في سوريا عموماً.

إنها ليست محاولة لنزع الوحشية عن النظام أو ادعاء القدرة على مقارعته أو الدعوة إلى ذلك، وليست بالطبع تغاضياً عن كل فعل "ثوري" بُذل في هذا الاتجاه، بقدر ما هو تذكير باستسهال اعتقالنا، بوصفه استسلاماً نمطياً مشمولاً أساساً في خطط التحضير لعيد النوروز. تسوية أمنية غير معلنة تريح الحركة الكردية من عبء المغامرة والمبادرة والتجديد في العمل الحزبي، فيما تغض الأفرع الأمنية بصرها عن نزوات المحتفلين لبعض الوقت. لكن بحضور عنصر المخابرات الذي كان ينشغل عن هيجاننا بالتهام أطباقنا. مطمئناً بأن كل هذا الصخب لن يبرح مكان الاحتفال، وبأن الكآبة ستتسلل مع غروب الشمس إلى أرواح المحتفلين، ليعودوا في اليوم التالي مواطنين فرائس في دولة البعث.

والحال أن الانزواء كفعل إنساني يعلن العزوف عن المشاركة في حدث ما، انطلاقاً من عدم جدوى الفعل نفسه، لن ينتج على المستوى السياسي سوى الخواء. إلا أن الحركة الكردية في سوريا تحاول تقديم عجزها فعلاً نضالياً، ومحطة حتمية تستحضر فيها صورة الكردي عن نفسه بأنه لا صديق له. وبأن الانكفاء والاختباء من طباعه لينجو، وبأن الخيبة أصيلة في دمه، وهي لا تملك في منعها سبباً.

بُعيد انطلاق الثورة السورية وتعاظم نفوذ حزب الاتحاد الديموقراطي، والذي يجيد المناورة واستغلال المساحات المتروكة، تجنّبتْ الأحزاب الكردية التقليدية المجابهة المباشرة وفضلت التراجع على الاشتباك السياسي المفتوح معه.

تميل الحركة الكردية عموماً إلى اختزال المعادلة الكردية في سوريا ظلاً للصراعات القديمة-الجديدة، بين الحزب الديموقراطي الكردستاني وإقليم كردستان العراق من جهة، وحزب العمال من جهة ثانية. هذا الاستحضار الأيديولوجي العميق، والمحمّل بصور قاتمة في الذاكرة الكردية عن "قتال الأخوة" ولعنات الأمهات، يعفي الحركة في المقابل من الخوض في أي مغامرة سياسية مع سطلة حزب الاتحاد الديموقراطي، والاكتفاء عوضاً عن ذلك بتقديم خبرات وحصائل تلك الصراعات، مقدمات مبدئية لشكل التعاطي المفترض.

في ضفة أخرى، وفي سياق علاقتها الملتبسة مع شركائها في المعارضة السورية وأطراف النزاع الأخرى، تجيد الحركة الكردية أدوار الصمت والانكفاء، سواء على صعيد استحقاقاتها السورية مع هؤلاء الشركاء، أو على صعيد حضورها القومي المفترض على الساحة الكردية السورية.

خلال مفاوضات الانضمام إلى الائتلاف السوري المعارض، انسحب الوفد الكردي مرات عديدة، تعبيراً عن الاحتجاج على طغيان الملامح العروبية والإسلامية على وجه التشكيل الوليد، وتأكيداً في المقابل على أحقية التمثيل الكردي في المشهد السوري معطىً طبيعياً لا بد للمعارضة من تقبله بشكل مبدئي لا يستدعي عناء المفاوضات التي تُفقد هذا الحق أصالته. لا تفسير منطقياً سياسياً لكل تلك الانسحابات الكثيرة ومن ثم القبول لاحقاً بوجه الائتلاف العبوس، والذي لن يتحمل فكرة ديموقراطية، فكيف بها أن تكون كردية، سوى أن للانزواء حتماً حصة تمثيلية ومقاعد شاغرة ليشغلها المنزوون.

الموقع الذي دُفعتْ إليه الحركة الكردية في معادلة الصراع السوري، يزداد قلقاً مع كل تحرك تركي مدعوم بشركائها من المعارضة السورية. ويطرح تساؤلاً ملحّاً عن حقيقية امتلاكها مشروعاً أو برنامجاً سياسيا متماسكاً.

من هذا الموقع المتفجّر تصرخ فينا تارة بصوت كردي صريح يدَّعي تمثيل وحماية الحقوق القومية، ضمن ما تسميه، بعيداً من عيون "شريكها العابس"، كردستان سوريا. وتخوض في سبيلها صراعاً إيديولوجياً عَدَمياً إلى جانب طرف كردستاني ضد آخر، بداعي الوصول إلى لحظة "النقاء" الكردية الخالصة. متحصّنة خلف هذا الخطاب القومي، تنتقد الحركة الكردية مشروع الاتحاد الديموقراطي باعتباره مشروعاً يستهدف الكرد ويهادن العرب على حساب الحقوق الكردية في سوريا! وتجدها تارة أخرى تقاتل عبر منصات المعارضة السورية في سبيل تأكيد حقوقها وواجباتها ومصائرها السورية. ما يعني تبني خيارات الأخيرة وتحالفاته، المناقِضة جوهراً لكل توجه قومي كردستاني تدعيه الحركة الكردية. إنه موقف ملتبس لن ينجو منه سوى "جسم سياسي" قادر على الانزواء وعدم التحريك وتصدير عطالته السياسية قدراً محتوماً، ويستكين في المقابل إلى شارع يتبنى روايته ويجد له أمام كل خسارة مخرجاً.

ليس الأمر وكأن كرد سوريا استيقظوا ذات صباح متفاجئين بكائن غريب يتقلب في أسرّتهم، يفسّر لهم حركة النجوم من فوقهم ويتحدث من حناجرهم. هذا "الغريب" نشأ معنا وكبر مع انشغالنا عن السياسة بممارسة أدوار البطولة.