هل تطرد أميركا تركيا من "الناتو"؟

محمد العزير
الجمعة   2023/01/20

انتهت زيارة وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو الى واشنطن ولقائه مع نظيره الأميركي انتوني بلينكن بالتزامن مع لقاءات العمل المطوّلة التي عقدها وفدا الجانبين في اطار لجنة "الآلية الاستراتيجية" التي تشكلت الربيع الماضي للتنسيق بين البلدين، من دون أي نتائج إيجابية معلنة ومن دون مؤتمر صحافي مشترك، ورشح من كلام أوغلو الذي اكتفى بالحديث الى الصحافيين الأتراك المرافقين له فقط ومن البيان المشترك المفعم بالعموميات والكلام الدبلوماسي أن الزيارة التي أرادتها إدارة الرئيس جوزيف بايدن مثمرة ومفصلية في توقيت شديد الحساسية، أرادها الرئيس رجب طيب اردوغان كحدث اعلامي ينضم الى الأضواء التي تسلطت عليه منذ إعلانه التقارب مع رئيس النظام السوري بشار الأسد، ومحطة جديدة لربط النزاع حول ملف توسيع عضوية الناتو الذي تعرقله سياسة انقرة ومطالبها. 

لم تشر وسائل الإعلام الأميركية ذات المصادر "الموثوقة" التي تعلن عبرها عادة ما يتم الاتفاق عليه خلف الأبواب المغلقة، الى أي تقدم يذكر في أي من الملفين، خصوصًا العلاقة مع دمشق التي أعلنت واشنطن معارضتها لها بشدة تكرارًا، بل أن الأسئلة الكثيرة التي وجهت الى المتحدث باسم الخارجية نيد برايس في ايجازه الصحافي عقب الزيارة عكست جوًا سلبيًا لم تبدده الأجوبة المنمقة، وزاد عليه تصريح اوغلو الى صحافيي بلاده والذي أصر فيه على ضرورة الفصل بين صفقة الـ "إف. 16" وبين ملف "الناتو" وعلى انتقاد السويد مجددًا، واتهام أميركا بعدم الإلتزام بتعهداتها بشأن سوريا، ودعوتها الى تعيين مبعوث خاص لها لمتابعة الشأن السوري وتهديداته للفصائل الكردية، ما ترك انطباعًا واضحًا بأن الزيارة فشلت وباعدت بين موقفي البلدين. 

فاقم هذا الجو السلبي معطوفًا على الأخبار القادمة من أنقرة والمتعلقة بالملفات الساخنة حيث حرص أردوغان على لقاء وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، بعد دعوته رسميًا وبشكل عاجل الى تركيا بينما كان في زيارة الى العاصمة السورية دمشق، ودعوة طهران للعب دور في التطبيع مع سوريا، ثم اتصاله الهاتفي بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين للبحث في التطبيع مع الأسد (راجع المدن)، فضلًا عن تصعيده ضد السويد على خلفية تمزيق دمية على صورته في تظاهرة في ستوكهولم، ومطالبته تسليم 130 لاجئ سياسي الى تركيا، من الإنزعاج الأميركي الواضح وأعاد وللمرة الثالثة خلال ثلاث سنوات طرح قضية في منتهى الحساسية تنذر إذا تم إعلانها بإحداث زلزال جيوسياسي يتجاوز التجاذبات والتموضعات الراهنة ويطيح الترتيبات الإقليمية السائدة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية ويفضي الى طرد تركيا من عضوية "الناتو" وحرمانها من امتيازات استراتيجية عسكريًا وأمنيًا واقتصاديًا كانت تتمتع بها خلال السنوات السبعين الماضية، وحرمانها تاليًا من حق الفيتو الراهن، ولا ينظر المتابعون الى هذا الطرح كعامل تهويل اعلامي، بل يرون فيه احتمالًا واردًا بعدما ضاقت واشنطن ذرعًا بـ “صدمات أردوغان وتقلباته، ولم تعد قادرة على تحمل تبعات نزقه وارتجاله واعتباطه".

وكان مستشار الأمن القومي ومندوب أميركا الدائم في الأمم المتحدة السابق جون بولتون كرر طرح الموضوع الأسبوع الماضي، داعيًا الى النظر في عضوية تركيا في الحلف، وقال في مقابلة مع مجموعة "يورو ويكلي نيوز" الإعلامية الاسبانية :"ستشهد الأشهر المقبلة امتحانًا عمليًا حقيقيًا لوحدة الغرب وعزيمته، فنلندا والسويد اتخذتا قرارًا رائعًا بالإنضمام لـ "الناتو" لكن شركاء بوتين الإقتصاديين والعسكريين لم يتخلوا بعد عنه في وقت الشدة، وللأسف بينهم تركيا التي ينبغي النظر في عضويتها اذا اعيد انتخاب اردوغان -ربما بالتزوير-". هذه ليست الدعوة الأولى من نوعها، ففي العام 2019 عندما نفذت تركيا هجومها البري على شمال سوريا، دعا عضو مجلس الشيوخ الأميركي السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام الى تجميد عضوية تركيا في "الناتو" بالتزامن مع دعوة رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب في حينه الديمقراطي اليوت انغل الى طردها من الحلف، كما أعلن وزير الدفاع في إدارة دونالد ترامب السابقة مارك اسبر أنه حذر تركيا يومها من أن بقاءها في "الناتو" سيكون مهددًا. تكررت تلك الدعوات ايضًا عندما اشترت تركيا من روسيا نظام الدفاع الجوي "إس400".

صحيح أن النظام الداخلي لـ "الناتو" لا يتضمن آلية لطرد دولة عضو، على غرار آلية الانسحاب منه المنصوص عنها في المادة 13، لكن المسألة واردة قانونيًا وفق اكاديميين متخصصين بالعلاقات الدولية، ويقول أوريل ساري في بحث مطوّل نشره في مجلة "جاست سيكوريتي" (Just Security) المتخصصة، ان بإمكان مجلس الحلف أن يطلب طرد أية دولة تخالف مبادئه وأهدافه المعلنة، وهي في هذه الحالة الإلتزام بميثاق الأمم المتحدة، وحماية الحرية والديمقراطية والحريات الفردية وسيادة القانون والعمل مع بقية الأعضاء على تحقيق اهداف الإتفاقية. وتشير محاضر جلسات تأسيس الحلف الى أن المسألة كانت مدار بحث اثناء مرحلة التأسيس عام 1948، مع بداية الحرب الباردة ووجود مخاوف من وصول الشيوعيين الى السلطة في دولة عضو! ويرى المختصون أن "اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات" الموقعة عام 1969، توفر السياق القانوني لهذا الاجراء.

هذا في القانون، اما في السياسة فيرى المعنيون أن حاجة "الناتو" الإستراتيجية الهائلة الى تركيا أيام الحرب الباردة و"البعبع الشيوعي" انتهت بزوال الإتحاد السوفياتي، كما أن الإنعطافة الإسلامية لحزب العدالة والتنمية أبعدت تركيا عن مسارها العلماني ذي التوجه الغربي قبل أن يدخلها اردوغان عقب محاولة الإنقلاب عام 2016، في مسار استبدادي داخليًا، وفي سيرك شخصاني كيفي اقليميًا ودوليًا، يكاد يحولها الى حصان طراودة لخصمي أميركا اللدودين روسيا وايران، وهذا واقع لا يمكن لواشنطن القبول به حاليًا لسببين مهمين الأول أن التركيز الاستراتيجي لأميركا انتقل الى المحيط الهادئ و"التهديد الصيني"، والثاني أن بوتين الغارق في الثلوج الأوكرانية قدم في حربه العدوانية  لـ "الناتو" هدية عظيمة هي عضوية الدول الإسكندنافية التي تكمل الطوق حول روسيا، وبالتالي لن تفرّط بها فقط لأن اردوغان منزعج من تظاهرة تضرب فيها دمية تحمل صورته في شوارع ستوكهولم.

لم تنفع تطمينات اوغلو بعد الزيارة ولا تصريحات زميله وزير الدفاع خلوصي أكار، الضابط السابق الذي قاد الجيش وخدم في "الناتو" ويعرفه جيدًا قبلها من لندن، والذي قال بعد لقائه نظيره البريطاني بين والاس: "لا يمكن تصور "الناتو" بدون تركيا، نحن أمة مختبرة وجيش مجرب ولن نتصرف أبدًا بما يخالف تحالفاتنا ولا يوجد سبب للقلق، نحن نؤيد بالكامل سياسة الباب المفتوح في "الناتو" ونحترم رغبة المرشحين للعضوية"، ولم تقلل من الحنق الأميركي الذي يوشك أن يخرج الى العلن، وربما بشكل غير مألوف. 

قبل مئة عام بالضبط ألغى مصطفى كمال اتاتورك الخلافة العثمانية وقاد تركيا غربًا، فهل يعود اردوغان بها شرقًا هذه السنة ... بلا خلافة ولا "ناتو"؟