الأممية الترامبية..باقية وتتمدد

محمد العزير
الأربعاء   2023/01/11

بكثير من الجدية والقلق تابعت الأوساط السياسية والإعلامية في الولايات المتحدة وقائع المحاولة الإنقلابية الفاشلة التي نفذها أنصار الرئيس البرازيلي المهزوم خافيير بولسونارو يوم الأحد، الثامن من كانون الثاني/ يناير، حين اقتحم آلاف اليمينيين العنصريين والفاشيين مقرات الحكومة الفدرالية في برازيليا لمنع الرئيس المنتخب لولا دو سيلفا من مباشرة مهامه وتعطيل الحياة الدستورية على أمل عودة "زعيمهم" الى السلطة من دون مبرر قانوني أو منطقي. لم تنطلق تلك المتابعة من حقيقة التشابه بين السلوك الإنقلابي لأنصار بولسونارو وأقرانهم من أنصار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب (الذين ارتكبوا الجريمة نفسها في واشنطن) قبل سنتين وحسب، لكنها أظهرت التوجس من تحول عميق في النفوذ الأميركي كونيًا؛ التحول من إشاعة الديمقراطية والإنفتاح والتعددية وحقوق الإنسان، الى مساندة الفاشية والشوفينية والإستبداد.

لعقود طويلة، خصوصًا بعد هزيمة النازية والدخول في الحرب الباردة مع التجربة السوفياتية البائسة، قدمت أميركا نفسها في ادبياتها السياسية واعلامها وثقافتها الشعبية كأنموذج للحداثة والتحرر والليبرالية. استثمرت في ذلك بنجاح كبير وهي تناوئ بكفاءة عالية (إقتصاديًا ومعنويًا وعصريًا) أنظمة ستالينية، قمعية وبدائية وأبوية. عرفت أميركا، حتى عندما كانت تدير وتموّل وتحمي أسوأ الأنظمة الديكتاتورية والدموية في العالم من (إسبانيا فرانكو) الى (بينوشيه الأرجنتين) ومن لاوس الى إسرائيل وجنوب افريقيا، حتى انهارت التجربة الشيوعية، كبيت عنكبوت. فضح انهيار الإتحاد السوفياتي زيف ادعاءات أميركا الأيديولوجية عن الترابط بين الديمقراطية والازدهار، وبين الإنفتاح والإستقرار، وأنهارت نظريات المحافظين الجدد وهي مدججة بالسلاح والتعبئة وباءت الحرب على الإرهاب بالفشل. لم يكن ذلك هينًا على "المفاعلات الفكرية" سواء في المستوى الأكاديمي أو مراكز الأبحاث الممولة جدًا أو شريحة الخبراء والمحللين الذين بشروا بنهاية التاريخ الذي لا ينتهي!

آلت صدمة انتخاب باراك أوباما كأول رئيس غير أبيض ومن غير أصول أوروبية 2008، الى الثأر الشعبوي عبر دونالد ترامب 2016، على غرار ما فعلته هزيمة النوازع الإمبراطورية الألمانية بعد الحرب العالمية الأولى عبر التسليم لأدولف هتلر ونازيته. واكبت المشاعر القومية الشوفينية ايدولوجيا ضحلة تقاطعت مساراتها في شخصيات هامشية وتافهة لا وزن فكريا أو أدبيًا لها يبرر وزنها الشعبي الكبير، أمثال نايجل فاراج وبوريس جونسون في حملة "بريكزيت" في بريطانيا، أو تاكر كارلسون وشون هانيتي، وخصوصًا ستيف بانون في (أميركا ترامب). 

لصاحب الإسم الأخير الدور "العقيدي" الأكبر، وربما الوحيد، في تجربة ترامب. في شخصه الكثير من التفاصيل غير المهمة للقارئ العربي، لكنه، ببعض التبسيط، القائد الملهِم لليمين العنصري الأميركي. يجمع بانون في حويصلة ألسنية ملوثة ينشرها عبر برنامجه الإذاعي الذي كان أول من قدم ترامب كمرشح جدي للرئاسة عام 2015، بين كل المكروهات التي نشأت عليها أميركا نظريًا. أميركا تفضل البراغماتية على المبدأ، وتستقبح الماركسية واللينينية ومعهما التروتسكية، ولا تبشر الا بتصدير الديمقراطية! لكن بانون الذي ورث عن العنصري المتطرف اندرو بريبارت موقعه الاخباري عام 2012 ليحوله الى منصة للفاشية البيضاء الأوروبية الغربية المنشأ، بشّر بسياق جديد يمزج بين المكروهات الأميركية ويطرحها كمنتج "فكري" خلّاق. أخذ بانون من الماركسية مبدأ الأممية، ومن اللينينية مبدأ تحطيم السائد لبناء المستقبل، ومن التروتسكية مبدأ الثورة الدائمة (تصدير الثورة).

قبل أن يصل ترامب بغوغائية موصوفة الى رئاسة أميركا 2016، كان أكثر ضيوف بانون نجومية أقطاب "بريكزيت" في بريطانيا. بعدها أصبح بانون أهم شخصية في البيت الأبيض، حتى من ترامب التافه، إخترع لنفسه منصب رئيس مجلس إدارة ترامب وحلّ أولّا في كل المجالس الفدرالية. لكنه في مكابرة مشهودة ترك واشنطن ليتحكم بمسار الكون (تروتسكي). كانت خطوته الأولى الإنتقال الى أوروبا لقيادة احزابها الفاشية الجديدة من بروكسيل، ليلاقي علنًا ما كان فلاديمير بوتين يموله سرًا لتقويض النظم الديمقراطية. بين برنامجه الإذاعي الواسع الإنتشار، وعلاقاته المشبوهة بأثرياء الصين الهاربين بأموالهم الى الغرب وحقارته الشخصية التي يصر على التعبير عنها بصلف من خلال عدم الاهتمام بهندامه ونظافته وارتداء قميصين أو ثلاثة تحمل حوالي دزينة من أقلام الحبر، تحت جاكيته المعفرة، ولغته الهمجية، يتصرف بانون على أنه زعيم الأغلبية البيضاء الأوروبية الأصل ويتواصل مع رموز الفاشية الجديدة على هذا الأساس.

استقبل بانون في الأيام الماضية أكثر من موفد من انصار بولسونارو، وتهاتف وتواصل مع عشرات آخرين، وسخر برنامجه الإذاعي لهم، ووصف الذين اقتحموا مراكز الحكومة الفدرالية البرازيلية بالفدائيين، وقال في مقابلات صحافية واذاعية وتلفزيونية متواصلة أنه مصرٌ على موقفه ولن يتراجع وتحدى إدارة جوزيف باين والرئيس شخصيًا أن يثنوه عن ذلك. يعرف بانون أن القانون في أميركا يحفظ حقه في التعبير ويعرف أن إدارة بايدن لن تضيق ذرعًا به، لذلك هو يتعسف في استخدام حقه دفاعًا عن باطل، لكن للإدارة سبلًا أخرى للتعبير عن موقفها. 

سارعت إدارة بايدن الى التنديد بما حصل في برازيليا. حرص الرئيس بايدن الذي كان في المكسيك في قمة ثلاثية لأميركا الشمالية على اصدار بيان ثلاثي مع المكسيك وكندا يندد بأعمال العنف في البرازيل، كما أعلن من هناك دعوة الرئيس دو سيلفا الى واشنطن أوائل الشهر المقبل، وبدا واضحًا أنه أوعز الى مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية الى التركيز على الشأن البرازيلي، وهو ما ترجمته المؤتمرات الصحافية باسميهما. اللافت في كل ذلك أن الإعلام الأميركي الذي تعامل ببرودة مع عودة اليساري دو سيلفا الى الرئاسة، لأنه ليس "أميركيًا" كفاية، صحا فجأة على حقيقة أن ما ارتكبه ترامب وأنصاره في واشنطن له امتدادات عالمية قد ترتد على المصدر نفسه، وأن عليه أن يقرر هل هو مع الديمقراطية الصرفة أو مع الديمقراطية حين تخدم مصالح أميركا فقط.

أن تصف الصحافة الأميركية بولسونارو بـ "ترامب الإستوائي" فلديها الكثير من المقومات لذلك، اما أن تنفي واشنطن تهمة تعميم الفاشية عنها فيحتاج ذلك الى الكثير من البراهين خصوصًا وأن بولسونارو الذي لم يعترف بهزيمته الانتخابية حتى الآن يقبع في المستشفى...لكن في أميركا نفسها.