ليز تراس: الأزمة البريطانية وشبح ثاتشر

شادي لويس
الأربعاء   2022/09/07
ليز تراس، مع زوجها هيو أوليري، أمام مقرها الجديد في 10 داونينغ ستريت (غيتي)
كان يمكن للمنافسة على منصب زعامة حزب المحافظين البريطاني، وبالتالي رئاسة الحكومة، أن يكون مهرجاناً دعائياً كبيراً يحتفي بسياسات الهوية. فخلفيات المتنافسين، ليز تراس من جانب، وريشي سوناك صاحب الأصول الهندية الشرق أفريقية من جانب آخر، يغطيان طيفاً واسعاً من الانتماءات الهوياتية، ووصولهما يتوافق مع دعوات تمكين المرأة والأقليات معاً. مثل تلك المنافسة لا يمكن تصورها في عواصم أخرى في القارة العجوز. على سبيل المثال، عبر القنال الإنكليزي، وفي باريس الجارة الأوروبية الأقرب، حيث يهيمن الرجال البيض على قصر الإليزيه، لم تصل امرأة لمنصب الرئاسة أبداً، أما مجرد تصور وصول منافس ذي أصول شمال أفريقية إلى المرحلة الأخيرة من الانتخابات الرئاسية سيقع على الآذان وكأنه مزحة غير مضحكة.

بفوز تراس، تكون ثالث امرأة تتولى منصب رئاسة الوزراء في التاريخ البريطاني، والثانية في أقل من خمسة أعوام. أما سوناك فخسر بفارق ضئيل، أقل كثيراً مما كان متوقعاً، ليثبت أنه كان منافساً جدياً. إلا أن طبول الاحتفالات لم تُسمع في معسكر ما يطلق عليه "يسار سياسات الهوية". وعلى عكس الاتهام المتكرر ضد أجندة التنوع الثقافي والتمكين، والادعاء بأنها تكتفي بسطحية التمثيل الهوياتي على حساب الطبقي والاقتصادي، فإن المنافسة بين تراس وسوناك لم تحظ سوى بالتقريع الشديد من اليسار. الجدير بالدهشة هو تقدم حزب المحافظين في مسألة التنوع والتمثيل على مستوى المناصب القيادية، مقارنة بحزب العمال. إلا أن هذا النقد لا يمكن نسبته ببساطة إلى المماحكة الحزبية. فمن جهة، سوناك، سليل طبقة عليا هندية رعاها الراج البريطاني، هو واحد من أكثر أعضاء مجلس العموم ثراء، وزوجته التي طاولتها فضيحة تهرب ضريبي قريبة، وريثة لواحدة من أثرى عائلات الأعمال الهندية. هكذا، لا يبدو سوناك ممثلاً للمهاجر الجيد التقليدية، مقارنة بعمدة لندن العمالي، صديق خان، ابن المهاجر الباكستاني سائق الباص. بل يقدم سوناك مثالاً على توسع الطبقة الحاكمة البريطانية واستيعابها لنخب إمبراطوريتها السابقة.

منذ العام 2010، يهيمن حزب المحافظين على السياسة البريطانية بلا منغصات. فتخلي الناخبين الإسكتلنديين عن تصويتهم التقليدي للعمال، وانزياحهم نحو الحزب القومي الإسكتلندي، كان يعني دخول بريطانيا إلى ما يمكن وصفه من باب المبالغة بعصر الحزب الواحد. فمن دون إسكتلندا، يصعب تصور فوز العمال منفرداً بأي انتخابات عامة مقبلة. دفع هذا حزب العمال للانزياح تجاه اليسار، إبان فترة كوربين، بنيّة استعادة أرضيته بين الطبقة العاملة، وهي المحاولة التي فشلت بفعل الصراعات داخل الحزب، قبل أن تسقط في الانتخابات العامة. وفي المقابل، اندفع حزب المحافظين خلال الفترة نفسها، المرة تلو الأخرى، لجهة اليمين، في ملف البريكزت والملف الاقتصادي وكذا الحقوق والحريات والمهاجرين.

في صعوده وسقوطه السريعين، سعى بوريس جونسون للترويج لنفسه بوصفه تشرشل جديداً، رجل المهام الصعبة والقرارات الحاسمة القادر على الخروج من البلاد من أزمة استفتاء البريكزت. كانت مهمة جونسون ناجحة بلا شك، إلا أن تقمصه لتشرشل كان أقرب إلى المحاكاة الكوميدية. ولم يكن الخروج من الاتحاد حسماً للأزمات، بل خلقاً للمزيد منها. ظل ملف إيرلندا الشمالية معلقاً، إلى حد توقعات بعودة العنف الأهلي. أما إسكتلندا، فبحسب استطلاعات الرأي، هي أقرب وأكثر حماسة للانفصال عن بريطانيا لصالح الالتحاق بالاتحاد الأوروبي. وفي بريطانيا المهددة بالتفتت، يواجه الاقتصاد أزمة خانقة، وتوقعات بركود قريب ومعدلات للتضخم غير مسبوقة منذ السبعينيات، وتذهب بعض توقعات إلى تجاوز نسبة التضخم العشرين في المئة. وفي ما يخص الشتاء المقبل، في ظل أزمة الوقود الحالية، تخرج عناوين الصحف بشعارات "إما الطعام أو التدفئة".

من جديد، يظهر شبح مارغريت ثاتشر في ضباب الأزمة. في المرة الأولى، تم الترويج لتيريزا ماي على أنها المرأة الحديدية الجديدة، القادرة على حسم مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو ما فشلت فيه بفعل الانقسام داخل حزبها. واليوم، تقف ليز تراس على الخشبة نفسها، لأداء دور المرأة الحديدية في نسخة أخرى. تدفع رئيسة الحكومة البريطانية الجديدة بأجندة حزبها يميناً أكثر من السابق. وبتصلب أيديولوجي، ترفض التدخل الحكومي في السوق لخفض أسعار الطاقة أو مساعدة الأُسر الأكثر احتياجاً، كما فعلت حكومة جونسون. وفي مواجهة سلسلة من الإضرابات العمالية المتلاحقة، من سائقي القطارات إلى عمال البريد، تلوح تراس بفرض المزيد من القيود على حق الإضراب. أما برنامجها لمواجهة الأزمة الاقتصادية، فيصب في خانة خفض الضرائب والمزيد من التقشف.

لا يمكن الجزم بمدى ثبات تراس على مواقفها "الحديدية"، فتاريخها السياسي يشي بالكثير من المرونة، من أول انتقالها من حزب الليبراليين الديموقراطيين إلى المحافظين، وصولاً إلى تحولها من مدافعة قوية عن البقاء في الاتحاد الأوروبي إلى مؤيدة متحمسة للخروج منه. لكن، وفي ظل تلك الأزمة البريطانية المزمنة المستمرة طوال العقد الماضي، تظهر جعبة حزب المحافظين خالية سوى من الوعد باستعادة أمجاد الماضي، بحيث تغدو رموز الحزب القديمة أشباحاً يتم استدعاؤها لتهيم على مسرح السياسية، أو قوالب منمطة على السياسيين الحاليين تقمصها.