إيطاليا العجوز

شادي لويس
الأربعاء   2022/09/28
الفائزة ميلوني: شكراً إيطاليا (غيتي)
بمجرد أن وصلتُ إلى محطة القطار الرئيسية، في مدينة فيتشنزا، التقطَت أذني حديثاً بالعامية المصرية. كانت اللكنة أقرب إلى لهجة أبناء الدلتا، بمط لأصوات الحروف الأخيرة من الكلمات. كان هذا قبل عشرة أعوام، على ما أذكر، وكنت في تلك المدينة في الشمال الإيطالي، بعدد سكانها الذي يتجاوز المئة ألف بقليل، لغرض عائلي.

تتبعتُ الصوت، الذي كان قد خفُت قليلاً، فوجدت شابَّين سمراوي البشرة، يقفان على ماكينة أوتوماتيكية لبيع التذاكر، وكان أحدهما يحاول إقناع رجل مسنّ بشيء ما. كان الحديث بالإيطالية، فلم أفهم، وظهر على المسنّ بعض التردد قبل أن يبتسم ويناول الشاب ورقة نقدية. في تلك الأثناء كان الشاب الآخر يحادث امرأتين مسنّتين وهو يشير إلى شاشة الماكينة، المرة بعد الأخرى، وبعدها انصرفتا إلى طابور طويل أمام واحد من شبابيك التذاكر. لاحقاً، وبعد تجوال في المدينة التي يفخر سكانها بأنهم أقرب إلى السويسريين منهم إلى الإيطاليين، اتضح لي المشهد، والذي بحسب أحد سكانها يلخص أزمة إيطاليا المعاصرة.

مثلها مثل غيرها من الحكومات الأوروبية، في العقود القليلة الماضية، انتهجت الحكومات الإيطالية المتعاقبة سياسات تقشفية، وبالأخص بعد الأزمة المالية العالمية العام 2008، وجاء التقشف يداً بيد مع المكننة والرقمنة، فحلّت ماكينات الصرف الآلي في محطات القطارات بدلاً من الموظفين. المحطات الصغيرة أغلقت مكاتبها بالكامل، أما المحطات الرئيسية والكبيرة نسبياً فبقي فيها عدد قليل من العاملين. في فيتشنزا، مثل معظم مدن الشمال الإيطالي، يظهر بجلاء التركيب الديموغرافي المائل إلى غلبة كبار السن. الشابان المصريان القادمان إلى إيطاليا على الأغلب بوسائل "غير شرعية"، يعملان كوسيطين لصالح المسافرين المتقدمين في العمر، غير القادرين على استخدام الماكينات الآلية، إما لضعف البصر أو لخبرة محدودة مع التقنية، فيفضل بعضهم الاستعانة بوسيط لاستخدام الماكينة ويدفع يورو إضافياً على أن يقف في الطابور الطويل، والكثير منهم يفعل ذلك أيضاً كنوع من الشفقة على الشابّين الودودين. إلا أن عملية ملء الفراغات التي تتركها السياسات النيوليبرالية، في محطة القطار أو في غيرها، لم تكن تمر بالسلالة نفسها دائماً. في اليوم التالي، سأشهد احتكاكاً غير ودي بين أحد المسافرين وبين الشابين.

أثار فوز حزب "إخوة إيطاليا" اليميني ذو الأصول الفاشية، بالنسبة الأعلى من الأصوات في الانتخاب التشريعية الأخيرة، الكثير من مشاعر الصدمة. فعلى خلاف الكثير من أحزاب اليمين المتطرف الأوروبية، والتي توصف بالفاشية أو الفاشية الجديدة على سبيل المجاز، فإن "إخوة إيطاليا" تعود أصوله بالفعل إلى كوادر الحزب الفاشي الإيطالي وقواعده التي عادت إلى العمل علناً تحت اسم الحركة الاجتماعية الإيطالية في العام 1946. أي لا مجازات هنا ولا مبالغات. صحيح أن الحركة، ومن بعدها الحزب، تنازلا عن الكثير من مبادئهما المتطرفة، وقبلا بأن "الفاشية ماتت" في عقد السبعينيات، إلا أن تلك الصِّلة التاريخية مع حزب موسوليني تظل مروعة وتجلب معها الكثير من الذكريات الدامية والمخيفة.

لا تملك جورجيا ميلوني، زعيمة الحزب، غالبية تسمح لها بالحكم من دون ائتلاف يضم حزب "الرابطة" بزعامة ماتيو سالفيني، وحزب سيلفيو برلسكوني "فورزا إيطاليا". وبالقياس على الأعمار القصيرة للحكومات الإيطالية، منذ الحرب العالمية الثانية، فإن التهديد الذي يمثله الحزب يظل محدوداً. كما أن تصريحات ميلوني تشير إلى تخفيفها لحدة نبرتها، كما كان متوقعاً بعد فوزها، وتعاملها مع السياسة الواقعية.

مقارنة "إخوة إيطاليا" بالماضي الفاشي، مضللة إلى حد كبير. ليس لأن الفاشية الجديدة أقل خطراً من سابقتها التاريخية، بل لأن السياقات التي أنتجت الأولى تختلف عن الأخيرة. على عكس "إيطاليا الفتاة"، في المخيلة الفاشية الأولى، القادرة على التوسع والغزو واستعادة إمبراطورية روما المفقودة، فإن ما نشهده اليوم هو "إيطاليا العجوز".

منذ العام 2007، تتجاوز أعداد الوفيات أعداد المواليد، ما يعني تراجع عدد السكان سنوياً، ومن المتوقع أن يصل عدد الوفيات إلى ضعف أعداد المواليد بعد عقدين من الآن، وبالتالي سينخفض عدد السكان بنسبة 20% بحلول العام 2070. معدلات الخصوبة الإيطالية واحدة من أقل المعدلات في أوروبا، ومع أن الهجرة التى تصل إلى 280 ألف مهاجر سنوياً تبطئ من معدلات التراجع السكاني، فهي أيضاً في سبيلها للانخفاض، بتوقعات هبوطها إلى 224 ألف مهاجر فقط بحلول العام 2070.

تظهر حدة الأزمة الديموغرافية، مع وصول نسبة السكان الذي تجاوزوا الـ65 من العمر، إلى حوالى الربع، ومن المتوقع وصولهم إلى أكثر من ثلثي السكان بحلول العام 2050. يعني هذا كله تراجعاً في الإنتاجية الإجمالية للاقتصاد، وارتفاع أعباء الرعاية والمعاشات التقاعدية، ويعني أيضاً تغيراً في التركيبة الديموغرافية والثقافية للبلاد بشكل ملموس في المدى القصير. لكن تراجع معدلات الخصوبة لا يمكن إرجاعه ببساطة إلى عامل ارتفاع مستويات المعيشة الغامض، بل إلى عدد من المعاملات الاقتصادية والاجتماعية، المرتبطة بأجندة النيوليبرالية الجديدة وتآكل دولة الرفاه، ما وضع الأجيال الحالية تحت ضغوط مهنية ومادية تقيّد قدرتهم على الإنجاب وتكوين أُسرة مقارنة بجيل آبائهم.

على تلك الخلفيات، تنال وعود ميلوني لصالح المتقاعدين، شعبية واسعة، وكذا فإن شعاراتها المتعلقة بالأسرة الكاثوليكية، ومواجهة الإجهاض والحد من الهجرة، لا تداعب فقط ميولاً مُحافِظة لمجتمع يشيخ بمعدلات متسارعة، بل تقدم حلولاً سحرية للأزمة الديموغرافية الداهمة.

كما في الماضي، تقلب الفاشية، المعضلة الاقتصادية والطبقية، إلى صراع من نوع آخر، عِرقي كما صورته الأولى، وإثني وثقافي على خطوط الهجرة والدين ونظرية "الإحلال الكبير" كما في الموجة اليمينية الجديدة الصاعدة اليوم.