صورة "مياس" التي يبتسم لها الجنرال

جهاد بزي
الثلاثاء   2022/09/27
عون مستقبلاً أعضاء فرقة مياس في قصر بعبدا
الصورة التذكارية، وإن كانت من بعيد، شديدة الترتيب والأناقة. الرئيس ميشال عون مع أعضاء فرقة ميّاس. حتى من تلك المسافة الكبيرة، تنير ابتسامة الجنرال الصورة ويكاد فخره يقفز منها ليقع في أحضاننا.
هذا لبنان الذي يريد أن يختم به الجنرال، وفريق عمله المكوّن من صهره، عهده. بوسام الاستحقاق المذهب للفرقة التي رفعت اسم لبنان عالياً في البرنامج الترفيهي الأميركي. بلغت الحماسة بالجنرال منح الفرقة الوسام في الصباح التالي لفوزها. كأنه لم ينم تلك الليلة لشدة فرحه بأن انجازاً ما حصل في نهاية العام السادس من حكمه، بغض النظر أن الفرقة خاصة، وليست منتخباً وطنياً، وأنه ليس ضليعاً بفنون الرقص كي ينسب الانجاز لعهده.
ميشال عون، لفرط حماسته وغبطته، لم يؤجل استقبال الفرقة لمنحها الوسام، إلى ما بعد انتشال كل الجثث من البحر الذي ابتلع المركب اللبناني قبالة شاطئ طرطوس.
لم يكن متوقعاً منه أن يعلن الحداد مثلاً، أو أن ينكس الإعلام تعبيراً عن الحزن على هذه المأساة. فقط أن يؤجل استقبال الفرقة بضعة أيام. لكن جدول مواعيده مزدحم على الأرجح وما هو إلا مركب آخر يغرق. لماذا التأجيل؟
الجنرال لم يبد حتى اللحظة أي تعاطف. لم يأسف. حين شاع الخبر المشؤوم، أصدر مكتبه بياناً خاوياً يطلب فيه الرئيس تأمين التسهيلات لعائلات الضحايا، وأشار إلى أن الرئيس يتابع "عن كثب". بيان رسمي فظ يبدو معداً سابقاً وموضوعاً في ملف "غرق مراكب" على كومبيوتر، تعدل فيه بعض العبارات والتاريخ وينشر من دون إزعاج راحة فخامة الرئيس.
وبينما الصور المرعبة تتوالى لأجساد صغيرة عائمة وجوهها مدفونة في المياه. بينما يرتفع رقم الموتى يوماً بعد يوم، لا يجد الرئيس نفسه معنياً حتى بتغريدة يبدي فيها حزنه. على من يحزن؟ هؤلاء لا يستحقون منه أي مشاعر. ففي اللحظة الصعبة، قرروا الفرار بدلاً من البقاء والمواجهة. قرروا أن وطنهم فندق يغادرونه حين تسوء خدماته.
حسناً، صحيح. لقد هرب في الماضي بدلاً من البقاء والمواجهة، لكن هذه لا تشبه تلك. حياته، في حينها، كانت ثمينة، وكان يجب عليه أن يحافظ عليها ليغير مجرى التاريخ اللبناني حين يعود ويصير رئيساً. وقد غيّر فعلاً مجرى التاريخ كما لم يتغيّر من قبل، فقد فازت فرقة مياس في برنامج الترفيه الأميركي. غرق الهاربين من البلد الذي يرأسه تفصيل أمام هذا النجاح المبهر للعهد، يفضل الجنرال ألا يعدل جدول مواعيده بسببه. غرق المركب تفصيل آخر يضاف إلى مجموعة تفاصيل لم تشكل أي تحدٍ للرئيس الذي ينتظر اللبنانيون الآن بفارغ الصبر رحلة عودته من القصر إلى الرابية، مع أنه لم يخرج منها طوال سنوات إقامته فيه، كبيراً لطائفة وزعيماً لحزب.
ميّاس أوفر حظاً من المهاجرين. ميّاس لبنانية صرف، بينما غرقى المركب خليط هجين من لبنانيين وفلسطينيين وسوريين. ميّاس شعارها برّاق، "كرمال لبنان" بينما الغرقى ينسحبون إلى قدرهم في العتمة. مياس "صورة لبنان" الشاب المتفائل الطموح المبتسم دائماً. صورته تماماً كما يحبها الجنرال. الغرقى هم صورة لبنان أيضاً، لكن ليس كما يحبها الجنرال. مهاجرون غير نظاميين مكدسون في مركب متهالك يغرق بهم وتعوم جثثهم بلا أي ترتيب على سطح الماء. الغرقى وأهاليهم صورة بكاء وصراخ ونواح.. صورة مؤذية ستلوث نظر الرئيس، ولا يريد في شهره الأخير إلا تجنب مثل هذه الصور، غض النظر عنها، والابتسام للكاميرا في الصورة التي تجمعه بشباب لبنان وشاباته الحقيقيين.
صور تذكارية كثيرة ستلتقط للجنرال خلال أيامه الأخيرة هذه في القصر. واحدة فقط لن يكون لها حظ أن تؤخذ. صورة في الصالة الواسعة عينها، برخامها الأبيض ونظافتها الهائلة، يتوسط فيها ميشال عون رجالاً ونساء وأطفالاً جاؤوا يودعونه ويشكرونه على كل ما فعل من أجلهم ومن أجل لبنان، قبل أن يذهبوا في الظلمة إلى المركب التالي المتهالك، يحملهم إلى وجهتهم النهائية، تلك التي لن يعرفها إلا الله وبحره العميق.