أميركا:جدل السلاح والجريمة..والدستور

محمد العزير
الأحد   2022/06/19

في أسبوع إخباري حافل بالأحداث حلت على الصفحات الأولى لكبرى الصحف الأميركية وعلى العناوين الرئيسة للمواقع الإلكترونية أخبار توصل مجموعة من المشرعين في مجلس الشيوخ من الحزبين الديمقراطي والجمهوري الى اتفاق مبدئي على قانون يهدف الى تقنين إنفلاش السلاح الفردي والحربي بين المواطنين مصحوبة بتحليلات وتعليقات مطولة تتناول القضية الأكثر إثارة للجدل والانقسام في بلد يشهد أكبر نسبة من المجازر وجرائم القتل الجماعية والإشتباكات المسلحة التي تزيد من المخاوف الأمنية والهواجس العنصرية بعد تزايد الإرهاب الداخلي ضد أقليات إثنية وإجتماعية معينة على ايدي متطرفين يمينيين تجمع بينهم، وإن تصرفوا بشكل فردي، مشاعر فاشية وشوفينية تغذيها وتتغذى عليها أطياف وازنة من التحالف الديني المحافظ.

من حق القارئ والمتابع عن بعد، أن يتوقف أمام مزاحمة خبر اتفاق تشريعي مبدئي على الصدارة لأخبار التحقيق البرلماني المثير حول اقتحام مبنى الكونغرس في السادس من كانون الثاني / يناير من العام الماضي، أو متابعة الغزو العسكري الروسي المستمر لأوكرانيا أو أخبار التضخم الاقتصادي والإنهيار الجزئي لسوق المال والأسهم، لكن ذلك يختلف عند الأميركيين الذين يعرفون حساسية الموضوع الذي لا يجاريه أهمية سوى ملفي الإجهاض والهجرة المتروكين حتى الآن للقضاء غير المخوّل له سن سياسات وطنية وإن كان قادرًا على الطعن في دستورية القوانين والمراسم التنفيذية وإضفاء المزيد من الغموض وخيبات الأمل في قضايا تتوقف عليها مصائر عشرات الملايين من الناس.

لا يكاد يمر شهر واحد دون وقوع مجزرة أو جريمة قتل جماعية مروعة في أميركا. القليل منها يلقى اهتمامًا اعلاميًا عالميًا، خصوصًا قتل الأطفال والتلامذة في المدارس أو اقتحام الكنائس وأماكن العبادة أو الأسواق أو أماكن العمل. الجرائم التي لا يكون عدد ضحاياها كبيرًا والاشتباكات اليومية بين العصابات والمسلحين في المدن الكبيرة لا تحظى بإهتمام اعلامي حتى على المستوى الوطني في أميركا. تشهد مدينة شيكاغو في ولاية الينوي على سبيل المثال بشكل شبه يومي، جرائم فردية ومناوشات بالأسلحة الحربية، وهذا لا علاقة له بما اشتهر عن المدينة من نشاط المافيا الذي اضمحل منذ عقود، بعد رحيل آل كابون الذي شهرته السينما.  وسجلت تقارير الشرطة في الأشهر الخمسة الأولى من هذه السنة، 971 عملية اطلاق نار أدت الى مقتل 239 شخصًا وجرح العشرات معظمهم من الأميركيين السود في الأحياء الفقيرة جنوب شرقي المدينة. وهذا حال معظم المدن الكبرى من واشنطن العاصمة الى نيو اورلينز في الجنوب مرورًا بسانت لويس وكليفلاند واتلانتا وصولًا الى أوكلاند في كاليفورنيا على الساحل الغربي.

ومع أن الإقفال الجزئي الذي فرضة وباء كوفيد زاد من معدل الجرائم واطلاق النار، الّا أن تزامنه مع آخر سنتين من عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، صبغ العنف بلون عنصري فاقع ضد الآسيويين والسود وذوي الأصول الإسبانية على يد مسلحين بيض. فمن اتلانتا حيث قتل مسلح في آذار من العام 2021، ثمانية اشخاص ست نساء منهم من الآسيويين الأميركيين في أربعة مناطق مختلفة من المدينة، الى مدينة بافالو في نيويورك حيث اقتحم مسلح في الرابع عشر من الشهر الماضي، متجرًا كبيرًا للتسوق وقتل عشرة اشخاص جميعهم من الأميركيين السود وبعدها بعشرة أيام فقط قتل مسلح في بلدة يوفالدي في تكساس 19 تلميذا تتراوح أعمارهم بين 7 و10 سنوات واثنين من معلميهم وجرح 17 آخرين وكل الضحايا من أصول لاتينية. ووفق تقارير الشرطة شهدت أميركا هذه السنة، وقبل أن ينتصف العام، 246 جريمة جماعية أدت الى مقتل 369 اشخاص وجرح 1162 آخرين. 

من المنطقي إزاء هذا الإجرام الذي يبلغ مراتب وبائية الربط بين القتل الجماعي والجرائم وبين الإنتشار المنفلت للسلاح في المجتمع، إلّا أن للسياسة منطقها المرتبط بخلفيات تاريخية وحسابات محلية وانتماءات إثنية تضع القضية في سياق آخر. يمتلك الأميركيون أكثر من 400 مليون قطعة سلاح، عشرة بالمئة منها بنادق قتالية آلية ونصف آلية تستخدم أو تتسبب بموت حوالي 45 الف شخص سنويًا أكثر من نصفهم انتحارًا، وتظهر البيانات أن أميركا الأولى عالميًا في نسبة استخدام الأسلحة في جرائم القتل بمعدل 79 بالمئة، مقابل 4 بالمئة في بريطانيا، فيما لا يمكن مقارنتها مع أية دولة أخرى في جرائم القتل الجماعي، لذلك من الطبيعي أن يطالب الليبراليون وجل الديمقراطيين وجمعيات أهالي ضحايا العنف المسلح بوضع ضوابط قانونية لبيع وشراء وإقتناء السلاح، إلا أن المحافظين وجل الجمهوريين وسكان الأرياف يرفضون المس بالحرية الكاملة لإمتلاك السلاح ويسارعون الى رفع التعديل الثاني في الدستور كسند لموقفهم.

ينص التعديل الثاني حسب ترجمة جامعة مينيسوتا العربية للدستور على:" حيث أن وجود ميليشيا حسنة التنظيم ضروري لأمن أية ولاية حرة، لا يجوز التعرض لحق الناس في اقتناء أسلحة وحملها". وحول هذا النص يدور السجال العقيم بين طرفي القضية؛ الليبراليون يرون أن هذا التعديل يتم تطبيقه بشكل رسمي من خلال الحرس الوطني الذي تشكل بموجب قانون الميلشيا لعام 1903، وقانون الدفاع الوطني عام 1916 اللذين نظما تشكيل وتمويل وتراتبية الحرس الوطني المشكّل من متطوعين في الولايات، والذي يمتلك وحدات جوية وبرية ومائية ويشارك في الحروب الأميركية منذ تأسيسه، ويصّرون على أن لا ضرورة للسلاح الحربي خارج أغراض الحماية الشخصية أو الصيد والرياضة، لكن المحافظين يردون بأن وجود الحرس الوطني لا يلغي النص الدستوري الذي لم تكن غايته الصيد والرياضة.

الواقع أن أنصار السلاح لهم اليد العليا والصوت الأعلى والنشاط الأكبر. ينتشر في أميركا حوالي ثلاثمئة تشكيل ميليشيا مسلحة في كل الولايات تتراوح اعداد المنضويين فيها من بين خمسين الى ثلاثة الاف يتلقون تدريبات تتفاوت ما بين استخدام السلاح وبين تدريبات قتالية محترفة، وبعض هذه التشكيلات له وجود وطني مثل   "حفظة القسم" (Oath keepers)، و"الفتية الفخورون" (Proud Boys)، والـ "ثلاثة بالمئة" (Three Percenters)، وكلها مجموعات شاركت في الهجوم على مقر الكونغرس، وتتعامل الأوساط اليمينية المتطرفة مع الميليشيات على انها ذراعها العسكري عند الحاجة. بالتوازي مع الوجود الميداني يتمتع أصحاب السلاح بدعم لوبي هائل لمنظمة "الإتحاد الوطني للسلاح" التي تضم 5.5 ملايين عضو وتعمل بموازنة سنوية تصل الى 425 مليون دولار سنويًا تنفق الكثير منها في نشاطات الدعاية والضغط السياسي، ولها نفوذ هائل في الكونغرس يطاول حتى الكثير من الأعضاء الديمقراطيين.

بالعودة الى الاتفاق التشريعي على قانون يضع ضوابط محدودة على السلاح، الملاحظ أنه، إن كتبت له النجاة حتى التصويت الأخير، لم يخفف السجال، فالمطالبون بالحد من السلاح رأوا فيه ضمادة لاصقة لن توقف نزيف جرح كبير، بينما رأى فيه مؤيدو السلاح انتهاكًا لحقوقهم الدستورية وخطوة أولى على طريق نزع السلاح. وبين الطرفين تنتظر أميركا جريمة مروعة جديدة تعيد النقاش الى المربع الأول.