كيف ينتخب السنّة القوات اللبنانية؟ يسأل سوري

عمر قدور
السبت   2022/04/30

جزء أساسي من رهان القوات اللبنانية على زيادة نوابها في المجلس النيابي المقبل هو أن يصوّت السنة لصالحها، وأن تقتصر المقاطعة السنية على الترشح، فلا تتعداه إلى امتناع عن التصويت. هذه المراهنة، المفهومة والواقعية، قد تكون صعبة الفهم على سوري اعتاد أن يرفع سنّة لبنان لواء العروبة، على الضد من مارونية سياسية بَنَت مشروعها على الافتراق عن العروبة الملتبسة بالإسلام.

بتعبير أشاعه إعلام الأسد لوقت طويل، تمثّل القوات ما سُمّي "الانعزالية اللبنانية"، وشيطانها هو سمير جعجع بعد عهد قصير للمؤسس بشير الجميل، بينما لم يقترب إيلي حبيقة من منزلة الشيطان رغم الدور المنسوب إليه في صبرا وشاتيلا. إعلام الأسد نفسه كان قد برر التدخل في لبنان بمنع تقسيمه، للتغطية على واقع التدخل بدايةً لصالح الجبهة اللبنانية "المسيحية" ضد "الحركة الوطنية اللبنانية" ومنظمة التحرير الفلسطينية. 

كان لا بد للتحالف مع الانعزاليين أن ينفصم سريعاً، لأنهم لن يقبلوا بهيمنة "الشقيق الأكبر" الذي كان الهروب من وطأته في صلب سعي أسلافهم إلى تأسيس لبنان. هكذا عاد الوضع إلى ما يوافق النسبة الغالبة من المزاج السوري، فوجود قوات الأسد صار يُسوَّق كدفاع عن عروبة لبنان، والقسمة باتت بين حافظ الأسد ممثلاً العروبة والانعزاليين عملاء الغرب وصولاً إلى تهمة العمالة لإسرائيل. هو اليمين الانعزالي كما دأب على تسميته إعلام الأسد، مع تجنب استخدام ما لا يتحرج اللبناني منه، أي الصفة الطائفية.

بالطبع، سوريّ اليوم هو غير سوري الأمس، وربما بات يدرك التغيرات السياسية التي حدثت منذ السبعينات وصولاً إلى اغتيال الرئيس الحريري. لكن يصعب جداً القول بزوال آثار التنشئة السابقة، وتحت عناوين عديدة من تلك الحقبة يحافظ جعجع على منزلته غير المحببة وجدانياً لدى شريحة واسعة، حتى عندما يحظى بتفهّم العقل. الأصل فيما نراه هو صواب التوصيف القديم رغم التغير الجذري الذي أصاب الأحوال، فالانعزالية "التي هي توصيف بالسلب للاستقلالية" لم يعد يُقصد بها النأي عن محيط عربي "سني بإطاره العام"، وصارت تعني النأي عن الهيمنة الإيرانية التي لا جدال حول وجودها. 

منذ حوالى ثلاثة عقود، أي منذ اشتدت قوة حزب الله، استُهلّ فعلياً عهد وصاية جديد يخفي في طياته صعود الهيمنة الإيرانية. فقدت دمشق مكانتها القديمة كرمز لـ"الحضن العربي" الذي يُنادى بعودة الابن الضال "لبنان" إليه، وهو ما سيرخي بظله على علاقة سنّة لبنان بالأسد، ليتوجه السنّة أكثر فأكثر إلى دول الخليج التي "فضلاً عن ثقلها المالي" لا تهدد لبنان على نحو ما يفعل الأسد، ولن تفعل ذلك لاعتبارات البعد الجغرافي، يُضاف إليه عدم وجود إرث عسكرتاري خليجي يُخشى من زجه في لبنان. 

كان صعود مقاومة حزب الله في التسعينات، بالتزامن مع صعود قائده الجديد نصرالله بكاريزما كانت مُحببة للجمهور، أفضل غطاء على أعين السوريين كي لا يروا التغيير الحاصل في لبنان وسوريا معاً. ساهم في الوصول إلى النتيجة ذاتها، في المقلب اللبناني، التركيز على "الوصاية السورية" والتهوين من ثقل الحزب المتزايد في الحسابات الإقليمية الإيرانية، بل مراهنة البعض على أن تتغلب في النهاية لبنانية الحزب، ومراهنة البعض الآخر على أن تتكفل التوازنات اللبنانية التقليدية بتشذيبه.

غيّرت الثورة ضد الأسد من اصطفافات السوريين القديمة، ونال مناوئو الأسد في لبنان من الحب نصيباً لم يحظوا به لدى السوريين من قبل، لكن ذلك بقي في إطار التجاذب السياسي الحالي المتعلق أساساً بالهيمنة الإيرانية. بعبارة أخرى، لم تحدث مراجعات تخص النظرة السورية السائدة سابقاً إزاء لبنان، وأحياناً تم الاكتفاء بعنوان "تحالف الأقليات" من دون تمحيص فيما يعنيه من أثر على لبنان ثم على جواره السوري. 

حسب اللغة القديمة، كانت الانعزالية اللبنانية هي ما يجعل من لبنان الخاصرة الرخوة لسوريا، وهذا مبرر كافٍ لا لتدخل الأسد فحسب، بل لتدخل سوري واجب وضروري بحكم بنية الكيان اللبناني. وفرضية الخاصرة الرخوة، بقدر ما هي ذريعة للتدخل، لا تشرح شيئاً عن طبيعة التهديد القادم من خلالها. بالأحرى، يصبح الكيان-الخاصرة هو التهديد، ما يجعل وجوده في الأساس خطأ يتوجب تصحيحه في وقت ما، وقد يسهل اليوم "باستعجال لا ينقص البعض" احتساب تدخل الحزب لنصرة الأسد تأكيداً من نوع آخر على فرضية الخاصرة الرخوة.

على الضد من النشأة وملابساتها، تمكن الأسد من القضاء على ما يعنيه لبنان، بحيث أصبح المعنى مجرد ذكرى لزمن جميل. ولا يُستبعد أن تكون جهود الأسد سابقة على نشوب الحرب اللبنانية، ثم وجد فرصته في الأخيرة، وليكون قد اشتغل لمصلحته قبل أن تصب جهوده لاحقاً لصالح طهران. لبنان القديم لم يكن عربياً "ولا إيرانياً بالطبع"، وميزته كانت في هذا الانفصال بينما كان من عناوين تدخل الأسد لإخضاعه: إعادة لبنان إلى الحضن العربي.

كانت هناك مجموعة لبنانية "على الأقل" تسعى ليكون لبنان منفصلاً عن محيطه العربي، ومحاولاً قطع البحر إلى الجهة الأخرى. لم ينتهِ الأمر "كما هو حالياً" إلى انفصال لبناني عن محيطه ليكون في المحور الإيراني بالمعنى السياسي فقط، فهذا التحول هو في طبيعة وجود لبنان التي كانت مستهدفة طيلة العقود الأخيرة، والتي كان خلالها السوري العادي ونسبة كبيرة من المسيَّسين على نحو أيديولوجي أو آخر تحت تأثير فكرة تطويع لبنان، من دون استبعاد عامل الرفض الضمني للكيان المستحدث، وهذا أيضاً كان يُردّ إلى إرادة غربية صنعتْه، مع تجاهل كلي من أصحاب هذا الرأي لمشيئة اللبنانيين.     

في عام 1992 قاطع الموارنة الانتخابات البرلمانية، بعد ثلاثين عاماً بالضبط قاطع السنة الانتخابات. في التاريخ الأول كانت وصاية الأسد على لبنان في ذروتها، وفي التاريخ الثاني ما تزال الوصاية الإيرانية تعتبر في ذروتها. اليوم صارت إعادة لبنان من الحضن الإيراني إلى العمق العربي مطلباً عزيز المنال، والعمق العربي لا يشمل سوريا التي هناك من يطالب أيضاً بإعادتها إلى الحضن العربي. قد لا تكون اللحظة الأنسب سياسياً للمطالبة بإبعاد لبنان عن الحضنين، إلا أن هذا ضروري في كل وقت بعدما دفع اللبناني والسوري ثمن عدم ترك اللبنانيين وشأنهم.