انتفاضة ماسبيرو: الأيام الأخيرة لبروليتاريا الدولة

شادي لويس
الأربعاء   2022/04/27
الانتفاضة غير المتوقعة في "ماسبيرو"، ليست دلالة غضب، بقدر ما هي علامة يائس أخير
أصبح الأمر يومياً: خبر آخر عن مواطنة تختفي. هذه المرة، تقتحم قوة من الأمن منزل صفاء الكوربيجي، الصحافية بمجلة "الإذاعة والتلفزيون"، وبعدها تنقطع أخبارها. شاركت الكوربيجي في الاحتجاجات ضد إدارة الهيئة الوطنية للإعلام، والتي بدأت منذ مطلع العام الجاري، وأطلق عليها البعض "انتفاضة ماسبيرو". كانت اعتصامات الموظفين في مبنى الإذاعة والتلفزيون مرتبطة في البداية بقواعد الحضور والانصراف، ومسائل إدارية ومالية أخرى، قبل أن تخرج قليلاً عن السيطرة.

بثت الكوربيحي فيديوهات تتهم الدولة بتصفية الجهاز الإعلامي الحكومي، لصالح سيطرة المخابرات على عمليات الإنتاج عبر شركات خاصة صورية، ووصل الأمر إلى مطالبة مشاهديها بتوقيع استمارة لسحب الثقة من رئيس الجمهورية. بالتوازي مع اختفاء الكوربيجي، سرت أخبار عن اختفاء المذيعة هالة فهمي، الناشطة في الاحتجاجات نفسها. فبعد مداهمة قوة أمنية لبيتها حيث لم تجدها، ظهرت فهمي في مقطع مصور وهي تستغيث بالشعب المصري لإنقاذها من مطاردات جهاز أمن الدولة.

لوقت طويل، حمل ماسبيرو دلالات رمزية متعددة الأوجه. المبنى نفسه الذي افتتحه ناصر في العيد الثامن لثورة يوليو، صار معماره رمزاً بصرياً للقاهرة، جنباً إلي جنب مع برجها، بل وفي منافسة مع أهرامات الجيزة كعلامة مميزة لأفق المدينة في البطاقات البريدية. الأكثر التصاقاً في الذاكرة، وبالأخص لمن لم يزوروا القاهرة قط، هو مجسم مبنى ماسبيرو الذي داوم على الظهور في مقدمة المسلسلات المصرية مع موسيقى شبه عسكرية. كان في ذلك المجسم تكثيف بصري لهيمنة إعلامية ستمتد طويلاً في مخيلة المشاهدين حول العالم العربي.

إلا أن افتتاح مدينة الإنتاج الإعلامي في العام 1997، كان يعني أفولاً لمكانة ماسبيرو العملية، مع انتقال المركز الإنتاجي إلي أطراف العاصمة، أي إلي مدينة السادس من أكتوبر. وكما كان ذلك انطلاقاً لعصر البث الفضائي، كان أيضاً تأسيساً لنماذج جديدة للإنتاج، وعلاقات مؤسسات الدول مع القطاع الخاص. لم تعد الدولة منتجاً حصرياً للمادة الإعلامية وعملية بثها، تنازلت عن ذلك لصالح استخلاص ريعي، من بيع حقوق البث وتأجير الاستديوهات والمعدات ومواقع التصوير، وتخصيص القنوات على قمر النيل سات وغيرها من عمليات خدمية وتقنية.

كانت المدينة واحدة من أبرز الدلائل على بداية العقد الذهبي لمبارك، وتمهيداً لنهاية عهده أيضاً. فبمطلع الألفية، تسارعت إجراءات تحرير السوق، ولحق بعمليات تخصيص الأراضي لصالح رجال الأعمال، تقسيم المساحات الفضائية وتوزيع نطاقات البث أيضاً. وفي الخلفية، كان ماسبيرو يتوارى، كقطعة من النوستالجيا، تليق بأفلام الأبيض والأسود في "ماسبيرو زمان".

مع هذا، أو ربما بسببه، شكل المبنى العتيق قلقاً مستمراً لمبارك ومَن جاء بعده، فعشرات الألوف من الموظفين هناك التحقوا بوظائفهم، كجزء من التعاقد الاجتماعي مع الدولة في صورتها الناصرية. ورغم حظوظهم الأفضل من غيرهم، وجد موظفو ماسبيرو أنفسهم يفقدون مكانتهم بين صفوف بروليتاريا الدولة، من عمّال الجهاز الحكومي والقطاع العام، ومثلهم تعرضوا لحملات ترشيد النفقات العامة مع خطاب رسمي يكتفي بالتأفف منهم كعبء. في عقد مبارك الأخير، كان صعود دور القطاع الخاص يعني أيضاً تأجج مرحلة من الاحتجاجات العمالية والاعتصامات والإضرابات كانت الأكثر حدة وكثافة، وبالأخص بين موظفي القطاعين الحكومي والعام.

منذ سقوط مبارك، منح عالم المصريات الفرنسي، غاستون ماسبيرو، اسمه إلى ما هو أكثر من مبنى الإذاعة والتلفزيون. أصبح الاسم عنواناً لمقتلة الأقباط، "مذبحة ماسبيرو"، وصار "تطوير مثلث ماسبيرو" و"أبراج ماسبيرو" علامتين لعملية واحدة، الإخلاء القسرى للسكان الفقراء وإزالة مساكنهم بالعنف لصالح تخصص الأراضي للإسكان الفاخر والاستثمارات الكبرى.

صباح يوم الإثنين، وبعد اختفاء قصير، تظهر صحافية "الإذاعة والتلفزيون"، صفاء الكوربيجي، في إحدى النيابات العامة، وكالعادة مع قرار بالحبس الاحتياطي. الانتفاضة الشجاعة وغير المتوقعة في ماسبيرو، ليست دلالة غضب، بقدر ما هي علامة يأس أخير. ففي المعادلة الطبقية الجديدة للحكم، وفي منظومة الإنتاج الإعلامي التابعة مباشرة للمخابرات، لا يبدو أن هناك مساحات باقية لبروليتاريا الدولة.