واشنطن المنشغلة بتظاهرات الصين أكثر من إيران

محمد العزير
الأحد   2022/12/04

كشفت التغطية الإعلامية والمواكبة السياسية الأميركيتين للإحتجاجات التي اندلعت في الصين نهاية الأسبوع قبل الماضي، حجم التجاهل الأميركي للتظاهرات الشاملة المستمرة في ايران منذ مقتل الشابة مهسا اميني أواسط أيلول الماضي بعد اعتقالها من قبل شرطة الأخلاق، وتابع مؤيدو المعارضين الإيرانيين بدهشة الإنشغال الإعلامي، وخصوصًا الصحافة المكتوبة، بالحدث الصيني اخبارًا وتحليلًا ورأيًا ومقابلات، بالتوازي مع إغفال ما يجري في الجمهورية الإسلامية، خصوصًا مع الفارق الكبير بين حجم التحركات الشعبية ومضمونها والثمن البشري والمادي في البلدين.

إحتلت التظاهرات الصينية، التي انطلقت بعد موت عشرة أشخاص في حريق في شنغهاي، واتهام السلطات، التي تطبق سياسة "صفر كورونا" للحد من انتشار الوباء عبر الإقفال التام وفرض الإقامة الجبرية الفعلية على الناس في بيوتهم الممنوع عليهم الخروج منها، بالمسؤولية عن البطء في اخماد النيران، حيزًا كبيرًا من عناوين الصفحات الأولى ومقالات الرأي لتحل ثانية بعد التغطية الشاملة والمتواصلة لتطورات الحرب الروسية على أوكرانيا، وكان ذلك كافيًا للتأكد من أن عدم تغطية الحدث الإيراني بشكل وافٍ لم تكن مسألة أولويات إخبارية في موسم الانتخابات النصفية، ما يجعل السؤال المنطقي هو عن السبب في "التساهل" التعبوي مع سلطة ترى واشنطن أنها لا تقل عداء عن الصين أو روسيا ولا تختلف عنهما الا في الحجم.

تكفي مراجعة سريعة لأوسع صحيفتين أميركيتين انتشارًا وأكثرهما نفوذًا "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" لإكتشاف الفارق الشاسع في الاهتمام. أطلقت الصحيفة الأولى على التظاهرات الصينية اسم "ثورة كوفيد في الصين"، ونشرت خلال الأيام العشرة الأخيرة 40 خبرًا وتحليلًا وست افتتاحيات في صفحة الرأي. في الفترة نفسها نشرت "البوست" 24 خبرًا وتحليلًا وخمس افتتاحيات، حثّت في واحدة منها الإدارة الأميركية على السعي لمنع انهاء الإحتجاجات بالطريقة التي انتهت بها احتجاجات الطلاب في ساحة "تيانمين" عام 1989. بالطبع لم تكن تلك كل الأخبار الصينية في الصحيفتين، فالصين كبيرة وكثيرة الأخبار وتغطيتها واجبة من وفاة زعيمها الأسبق جيانغ زيمين الى ارسالها روادًا الى محطة الفضاء التي انشأتها حديثًا.

في المقابل تحولت أخبار التظاهرات في ايران، والتي يتراوح عدد ضحاياها حتى الآن بين أكثر من 300 (وفق تصريحات مسؤول في الحرس الثوري)، وبين 493 (وفق إحصائية أخيرة لمنظمات إنسانية دولية) كثيرون منهم من النساء والأطفال، وتجاوز عدد المعتقلين الـ 11 الفًا (وفق المصادر الرسمية) بالإضافة الى مليارات الدولارات من الخسائر المادية، الى حاشية تُلحق بأخبار أخرى في الصحيفتين. فاق عدد المقالات والتقارير في الصحيفتين عن منتخب ايران في مونديال قطر، خصوصًا وأنه تقابل مع المنتخب الأميركي الذي هزمه وأخرجه من المنافسة، عدد ما يماثلها عن التظاهرات التي لم ترد كخبر مستقل في الفترة نفسها الا مرتين؛ الأولى عندما احرق المحتجون منزل عائلة مؤسس الجمهورية الإسلامية روح الله الخميني، والثانية عن استخدام الشرطة والحرس الثوري لسيارات الإسعاف لإختراق التظاهرات واعتقال المشاركين فيها.

بالطبع لم يكن سبب قلة التغطية شح المصادر، فوكالة "اسوشييتد برس" وقرينتها "رويترز" تزخران بالأخبار اليومية، كذلك تولي محطات الأخبار مثل "سي.ان. ان" و"أم.اس.ان.بي.سي" و"فوكس نيوز" اهتمامًا أكثر بأخبار ايران، لكن أكثرها مهنية وموضوعية محطة "بي. بي. اس" العامة التي تنفرد بتغطية لائقة ومتوازنة، وكذلك تفعل الصحف والمجلات ومحطات التلفزيون في المدن التي يعيش فيها عدد مرموق من ذوي الأصول الإيرانية الذين تجاوبوا بحدود امكاناتهم مع ما يجري في وطنهم الأم فتظاهروا واعتصموا وراسلوا ممثليهم في الكونغرس من نواب وشيوخ، لكنهم لم يحظوا بـ "نعمة" الاهتمام الصحافي ولم ترد قصصهم في سياق القصص الإنسانية" التي يتباهى الإعلام الأميركي بريادتها.

لم تفت ظاهرة الإهمال المتعمد هذه الإعلام الغربي الآخر على الشاطئ الآخر للمحيط الأطلسي، والذي يفرد مساحة أكبر لتغطية الحدث الإيراني ويطلق عليه اسم انتفاضة ايران. ففي افتتاحية واضحة تحت عنوان " لماذا يتجاهل الأميركيون تظاهرات ايران" قالت صحيفة "غارديان" البريطانية: " يمكن لوقائع المشهد الإيراني أن تبدو مفاجئة للمواطن الأميركي العادي إن لم يكن مهتمًا بإيران "لأن تغطية انتفاضتها متفرقة بشكل ملحوظ. بحثنا في شاشاتنا وعلى الصفحات الأولى دون جدوى معظم الأحيان، عند مشاهدة الأخبار المسائية ننتظر بصبر الخبر القصير من طهران بعد مقاطع ثرثرة المشاهدين والعواصف الثلجية. هناك عناء لمعرفة آخر التطورات على صفحة "هيومن رايتس واتس". تخلص الصحيفة الى إضفاء طابع جندري على الموقف. "لو لم تكن النساء في قيادة هذه الإنتفاضة كنا لربما أطلقنا على ما يجري اسم احتجاج عام أو ثورة، الإيرانيون يعرفون أكثر بالطبع ماذا يجب فعله، لكن علينا أن نكون يقظين الى ما يحدث ولماذا تحتاج المقاومة وتستحق دعمنا وهذا أضعف الايمان".

الملفت أن الإعلام الأميركي نفسه دأب على لوم الرئيس الأسبق باراك أوباما لأنه اتخذ موقفًا محايدًا أو سلبيًا من تظاهرات ايران عام 2009، وذهبت بعض الأصوات الى اتهامه بمحاباة السلطات الدينية للتوصل الى الاتفاق النووي، وهو الإعلام نفسه الذي تهيج لموقف الرئيس جوزيف بايدن على منصة الأمم المتحدة بعد أيام قليلة من وفاة مهسا أميني وبداية الإحتجاجات والذي قال فيه أن أميركا تقف مع نساء ايران الشجاعات المطالبات بحقوقهن. هو الإعلام نفسه الذي حسم الجدال وقال أن بايدن سيكون أكثر انتباهًا الى مشاعر الشارع الإيراني وبشر بمستقبل "لا مكان فيه للتساهل مع آيات الله"، وهو الإعلام الذي لا يلتفت الى ما يجري في ايران. هذا ما انتبه اليه نشطاء التواصل الاجتماعي، لكن القدرة الحكومية، في ايران، على الحد منه كافية لمنع تأثيره المباشر وغير المباشر.

عندما كانت المفاوضات حول الاتفاق النووي في أوجها أيام باراك أوباما، راجت في واشنطن مقولة مفادها أن للجمهورية الإسلامية قوة ضغط نافذة في واشنطن مدخلها الصهر الفارسي لوزير الخارجية في حينه والمرشح الرئاسي الديمقراطي الأسبق جون كيري  براين ناهد. من لا يتبنى عشوائية نظرية المؤامرة ومتفرعاتها لا يمكنه القبول بنظرية كهذه. لكن من يتابع الإهمال الأميركي الإعلامي والرسمي للتطورات الإيرانية من حقه أن يسأل: "ماذا دهاكم" لأن في الأمر داهية.