الآن وقد دخلنا مرحلة "الأمن الذاتي"

مهند الحاج علي
الإثنين   2022/12/12

كيف بإمكاننا قراءة دخول "أسطول" من الدراجات النارية الى منطقة الاشرفية للاحتفال بفوز فريق المغرب، ومن ثم اعتداء جماعة "الأمن الذاتي" فيها على بعض المحتفلين؟

أولاً، الانهيار اليوم أصبح في مرحلة لم يعد فيها الأمن متوافراً بمستوى مقبول، ولم تعد السلطات اللبنانية قادرة على بسط سيطرتها والحؤول دون دخول موكب استفزازي الى منطقة سكنية. هذا واقع. والمنطق يقول إن الأمن الذاتي ليس جديداً، بل سبق الجميع اليه "حزب الله" الذي حوّل مناطقه الى محميات خارج الدولة. وقبل الحزب، ألم تكن (وما زالت) المخيمات الفلسطينية محميات أمن ذاتي كذلك مع سلاحها الخارج عن نطاق الدولة اللبنانية؟  

بعد الانهيار المالي والاقتصادي عام 2019، باتت في مناطق وبلدات أخرى في أنحاء لبنان، أصناف متنوعة من الأمن الذاتي والحراسات الأهلية والحزبية. مناطق أخرى في بيروت مثل الطريق الجديدة فيها محاولات من الأمن الذاتي للتعويض عن غياب قوى الأمن. إذن لا تُبادر الأشرفية وحيدة الى الأمن الذاتي، بل الأرجح أنها التحقت بالركب متأخرة بعض الشيء، وهذا يُحتسب لها وليس عليها، والتركيز عليها دون غيرها ربما يضمر بعض الطائفية، أو الاستهداف السياسي، باعتبار أن مثل هذه الخطوة على ارتباط بمطالب الفيديرالية أو المركزية الموسعة. وهذه طبعاً مطالب مشروعة في ظل التفكك الحاصل والشلل على مستوى السلطة المركزية.

ثانياً، الأمن الذاتي قد يكون رد فعل مشروعاً في ظل تفكك الدولة، لكنه ليس حلاً. نشوء هذه القوى المحلية يفتح الباب أمام صراعات بين المناطق تحت عناوين مختلفة بعضها تافه مثل الاحتفال بفوز فريق كرة قدم، ولتفريخ عصابات مسلحة هنا وهناك. لا يُمكن تحديد مستوى قعر الهبوط فور الخروج من عباءة الدولة والقانون، بل القاعدة هي الانتقال من السيء للأسوأ بشكل متواصل. لكن ما العمل هنا؟

المطلوب ممن عايش الحرب الأهلية وانهياراتها وما شهدته من جرائم وعمليات تهجير واسعة، استخلاص الدروس، والعمل بدلاً من ذلك على دعم بقاء مؤسسات الدولة، وانهاء حالة الفراغ. وهذا الحراك السياسي ليس شيطنة للأمن الذاتي وظواهره، بل يُوفر حلاً للتفلت الأمني بشكل عام، ولا يخلق أزمات إضافية.

بيد أننا نعرف من خبرتنا في لبنان أن الأمن الذاتي ليس مجانياً، ولا بد من تحوله لسلعة على صغار التجار والسكان المحليين تسديد ثمنها، وهو بالتالي من التكاليف المقبلة علينا، إضافة للكهرباء والنقل وتداعي العملة المحلية ورواتب القطاعين العام والخاص وتبخر تعويضات الضمان الاجتماعي ورواتب المتقاعدين والمتقاعدات. على اللبنانيين واللبنانيات أن يدفعوا كلفة الأمن والكهرباء مضاعفة، علاوة على كل الخسائر التي تكبدوها منذ عام 2019.

أليس الأفضل دعم مؤسسات الدولة، والحؤول دون تفككها، من خلال مبادرات محلية؟ طبعاً قد لا تكون هذه الحلول هي الأنسب، لكن من المطلوب اليوم المحاولة خارج صندوق الحلول المعتادة التي تصب غالباً في مصلحة قوى السلطة، وأغلبها من ميليشيات الحرب الأهلية. ومن الضروري كذلك ربط هذا الانهيار الأمني، ونشوء "الأمن الذاتي" بقوى السلطة نفسها وزبانيتها من أصحاب المصارف (ممن يُسمون أنفسهم سياديين)، كونها تتحمل المسؤولية في الشقين. ليس تفصيلاً أن المسؤولين عن الانهيار، والرابحين فيه، هم أنفسهم من يصطادون الفرص اليوم. هم يملكون المال المكتنز في الخارج، ولديهم القدرة على الاستثمار في كل مناحي الحياة بعد الانهيار، ومن المطلوب الإشارة الى دورهم هذا وتحديد مسؤوليتهم المزدوجة ونفاقهم السياسي. 

من الضروري الإشارة الى هذه الأدوار، كونها امتداداً لجرائم السنوات الماضية. يجب ألا يفوتنا اقدام صاحب مصرف هرب أمواله الى الخارج وحرم الآلاف من أموالهم، أو زعيم ميليشيا، على تمويل مجموعة "أمن ذاتي" (ستتولى على الأرجح تحصيل الأموال من الناس). هذه سرقة مزدوجة، وهي مقبلة علينا دون شك.

لا يبقى حينها سوى اقتراح بدائل منطقية تُعزز دور الدولة ولا تُضعفه، وأيضاً خطاب سياسي جريء يُشير الى الجرائم الفادحة التي ترتكب بحق الناس.