نجم وإمام: محاكمة الذكورية بأثر رجعي؟

شادي لويس
الأربعاء   2021/07/07
"هو يعني الكون هيخرب لو الفقير يلهط له لهطة"
في الأغنية النضالية الأشهر،"شيد قصورك"، نتحسس ملمحاً من محافظة أخلاقية. المقارنة الضمنية بين "الخمارات جنب المصانع" و"السجن مطرح الجنينة" تشير إلى خريطة وطن مختلة، ما يستدعي أن تدق ساعة "العمال والفلاحين والطلبة" الثورية، كي يسلكوا "طريق مافيهش راجع". فما الخطأ في أن تكون الخمارات إلى جانب المصانع؟ ولماذا يبدو الأمر فادحاً إلى هذا الحد؟ ألا يتبني ذلك خطاباً رجعياً طالما أنه وصم أماكن وأفعال الترفيه وشرب الكحول تحديداً، بالتفسخ الأخلاقي، وحوّلها إلى إسقاط رمزي عن الفساد السياسي؟

أسبغ الربيع العربي على أعمال الثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، هالة إضافية من القداسة. فبعد إحياء تراثهما الاحتجاجي في ميادين مصر، وفي ميادين عربية أخرى خلال انتفاضات العقد الماضي، لم تعد أسطورتهما متعلقة فقط بالتحريضات والنبؤات السبعينية، بل كذلك أضحت شريطاً صوتياً للحنين المضاعف إلى الحاضر القريب، وإلى ثوراته المتحققة وذاكرة هزيمتها. ويوضع هذا الثنائي في موقع فوق النقد. وإن طاولت مواقف نجم السياسية، بعد ثورة يناير، الكثير من اللوم، فإن نصوصه ظلت بعيدة من الانتقاد، بل وكانت شفيعته لتخفيف الهجوم عليه. لكن، مع هذا، فإن أغاني الثنائي تتعرض كل حين وآخر إلى مراجعات، كان آخرها جدل محدوداً في وسائل التواصل الاجتماعي حول بعض أغاني الثنائي، من منطلقات نسوية.

لأسباب مفهومة، نالت أغنية "على المحطة" النصيب الأكبر من الهجوم. فالمرأة الموصوفة بـ"الحتة المُلعب" و"البطة"، تركب الباص في الدرجة الأولى، ويلحق بها "قطيع" يتقافز فوق الكراسي ليلحق بها هناك، حتى "يشبص في الجونلة، واللي يعلى واللي يوطى"، ولا ينتهى الأمر عند مشهد الانتهاك الجماعي هذا، بل يتحول النص إلى مشادة جانبية بين أحد ركاب "البريمو" وأحد الأسطوات الذي غادر مكانه في الدرجة الثانية. ويرد الأسطى على مطالبته بالعودة إلى الدرجة الأدنى الأليق بمكانته، بقول الجملة الأكثر إثارة للانتقاد والغضب: "هو يعني الكون هيخرب لو الفقير يلهط له لهطة". أما اللهطة فهي من جسد المرأة بالطبع، حيث تتم التسوية الطبقية بين الدرجة الأولى والدرجة الثانية و"غلبها".

لا تُعدّ تلك الأغنية استثناء. فنجم، الفخور ببذاءته والمحبوب بسببها، ينهل من تراكيب لغوية وصور ورمزيات قائمة بالفعل، ولا تنقصها الذكورية بالضرورة. فمن ناحية، تبدو رمزية مصر الأم، المرأة الولّادة أمّ طرحة وجلابية، تعتمد على مشترَك رمزي صاحب مفهوم الدولة-الأمة من البداية، وفي لغات عديدة (باستثناء لغات تذكر مفهوم الأمة، في صورة "الوطن الأب" بدلاً من "الوطن الأم"). ومن ناحية أخرى فإن المرأة، كما أنها رمز لأخوية عقدتها النسب الأمومي والخصوبة والشرف الوطنيين المؤنثين، فيمكن لها أن تكون رمزاً للعار والتفريط والتفسخ الأخلاقي بالقدر نفسه. وتتكرر تلك التيمة بصور شتى لدى الثنائي.

ففي أغنية "القواد الفصيح"، يتركز التدليل على الفساد الأخلاقي في الوسط الفني، حول جسد "عزيزة"، والتي يدعوها والدها للرقص لأجل "الأستاذ محمود الباز"، ولاحقاً للاقتراب منه، فهو لم يعد غريباً. تعتمد السخرية الواضحة على المفارقة بين اسم عزيزة، وكونها متاحة إلى هذا الحد، وبين صورة الأم -الوطن ودفاع أولادها عنها، وبين البنت التي يكون والدها قوّادها. ويرسخ هذا مفاهيم تكثيف الشرف الجماعي في جسد المرأة، سلباً وإيجاباً. في سياق مشابه، تعاير أغنية "الست الجيهان"، الرئيس السادات، بزوجته "القالعة المريلة"، وتدعوه إلى القيام بمهامه الذكورية "اشكمها يا ريس كفاية بهدلة"..."إعدل الميزان ووري المرجلة". ولا يبدو ذلك تحريضاً عليها، بقدر ما هو توظيف لإهانة رائجة تلحق بالرجل من خلال التهكم على سلوك نسائه وعجزه عن ضبطهن. في الأغنيتين، رجلان مُهانان، واحد بسبب الابنة، والآخر بسبب الزوجة، فالنساء نقطة ضعف يمكن مهاجمتها بسهولة، للنيل من رجالهن.

ويعود العامل الطبقي في أغنية "هما مين واحنا مين". فالمقارنة بين هم ونحن، بين ما يمتلكه الحكام وما يمتلكه المحكومون، تضم "النسوان المتنقية"، بالإضافة إلى "الفيلا والعربية". هنا تبدو النساء الجميلات، بضاعة استهلاكية تحظى بها الطبقات الحاكمة وحدها. وهكذا، يصبح الانتهاك الجماعي في باص أغنية "على المحطة"، عملية انتقام/تخريب طبقي، ساحتها وهدفها نساء الدرجة الأولى بعيدات المنال. مُعايرة السادات بزوجته، والقواد الفصيح بابنته، صور أخرى من ذلك الانتقام الذي يتم عبر النساء ومن خلالهن، وإن كان موجهاً ضد آخرين وضد بنى اجتماعية وسياسية ظالمة.

لكن تلك الصور ليست مستلهمة بالضرورة من خيال محلي ذكوري، محافظ وبذيء. فمن فرانز فانون "وجوه بيضاء وأقنعة سوداء"، إلى "موسم الهجرة إلي الشمال" للطيب صالح، تتكرر تيمات ما بعد استعمارية، ترى في اشتهاء بيت الرجل الأبيض المُستعمِر ومزرعته وزوجته، انتقاماً عادلاً وتعويضاً مستحقاً لا يخلو من تخريب عنيف، مادي ومعنوي.

هكذا، فإن ما يستدعيه نقد بعض من تيمات أغاني الثنائي نجم وإمام، ليس إدانة للرجلين بأثر رجعي، بل يلزمنا بتأمل وفحص تراث "تحرري" عن حق، له دوافع طبقية وبَعد-استعمارية، ومع هذا تخللته وشابته نزعات ذكورية، يبدو منطقها وتبعاتها مرعبة. يتطلب هذا كله مراجعة وفرزاً وتنقية لذلك التراث، لا بوصفه دليل إدانة ضد السابقين، بل ميراثنا منهم، ميراث عزيز وثمين في أوجه كثيرة، لكنه ليس كاملاً ولا مثالياً.