لقمان ومعنى الاختلاف

مهند الحاج علي
الجمعة   2021/02/05
كان لاغتيال لقمان سليم وقع شديد على الأوساط الإعلامية والثقافية والسياسية. الرجل لم يكن من النوع الصامت والهادئ، بل خاض في قضايا عابرة للحدود، وبنى شبكة علاقات وصداقات على وقعها.

هناك تناقض صارخ بين الهدوء الظاهر على محيا هذا الرجل، من جهة، وبين العواصف الدائرة في رأسه. إذا كان هناك من عنوان لحياة هذا الرجل وعلاقته بالشأن العام، فهو أننا أمام عنيد يرفض إقفال الملفات ونسيانها. إن أغلقت الميليشيات اللبنانية ملف الحرب الأهلية، وتحولت الى ميليشيات، افتتح أكبر عملية توثيق للحرب الأهلية من خلال مشروع الذاكرة. كل محطات هذه الحرب بيومياتها مُوثّقة الكترونياً بسبب هذا المجهود الذي وظّف فيه غالباً شباباً يافعين وُلدوا بعد الحرب أو في نهايتها. الملفات المفتوحة مثل قضية المفقودين وبينهم المعتقلون لدى النظام السوري، وأيضاً المجازر الكبرى لم تُطوَ في ملفاته.

كلما أراد متعهدو السلطة السياسية الاستحواذ على مبنى تاريخي مثل فندق الكارلتون، نُظّم معرضاً على سبيل الاستنكار والتوثيق. انشغل في توثيق ذاكرة السجناء في تدمر، أسوأ معتقلات المنطقة، إن لم يكن العالم المعاصر. لم تقم ثورة إلا واستهلكته بالكامل، من سوريا التي عايش آلامها وتعرف إلى رموزها وانخرط معهم في نضالاتهم، إلى لبنان أخيراً. 

كان مُصرّاً على حفر مكان في الذاكرة الجمعية لهذه القسوة، إن كانت جرائم الحرب الأهلية ومجازرها ومنها صبرا وشاتيلا، أو مآسي المعتقلات السورية والقمع المتواصل للنظام. مثل هذه الجرائم يجب أن لا تُنسى أو تسقط مع مضي الزمن.

في معارضته "حزب الله" وممارساته، كان لقمان أيضاً شديد الوضوح والصراحة والشجاعة والتهور أيضاً في موقفه، إذ يشعر الواحد منّا بأن له ثأراً شخصياً مع التنظيم. كان بقاؤه في منطقته غريباً لجهة أن التنظيم ليس حزباً بالمعنى التقليدي. لا نتحدث عن تيار أو زعامة سياسية عابرة، بل عن مشروع هوية جديدة لا تترك مكاناً لمختلف مثل لقمان. ليس بإمكان حليف "حزب الله" ميشال عون الإقامة في مسقط رأسه حارة حريك لاختلاف نمط الحياة فيها وضبطه في إيقاع لا يسمح لأي مختلف بالعيش فيها. كيف لمسيحي مثلاً أن يُقيم في مدينة النبطية وسط بحر الأعلام والصور والشعارات الدينية المتكاثرة كالجراد؟

ربما أراد لقمان بالبقاء في منزله التقليدي الجميل، أن يتمسك بماضٍ يتعرض للإبادة. بصرياً، يتعامل الثنائي الشيعي مع هذه المناطق وكأنها فُتحت عسكرياً للتو، وبات ضرورياً زرع علم ولافتة وصورة في كل متر مربع وكل زاوية شاغرة وفوق الأشرطة وعواميد الكهرباء، فلا البصر يرى سواهم، ولا الأذن تسمع غير أصواتهم ومكبراتهم. لم يبق فن ولا مسرح ولا ثقافة ولا تواريخ للأمكنة. حتى التاريخ عبثوا فيه، فبات فقط بلونين مقاومة بقيادة علماء الدين، أولياء الأمر. ووراء الاهتمام الفائض بتسييس الصغار وعسكرتهم، من خلال المدارس والكشافة الحزبية، رغبة في دفنِ ماضٍ لا يُشبه الحاضر. 

كان لقمان هناك مختلفاً، يُشوش الصورة بعض الشيء. أو ربما، للإستعارة من كتاب "المعرّي ذلك المجهول" الذي نشره وأهداه لأصدقائه، كان يستيقظُ، يقظته من حلم مزعج، "فيهب متأففاً في صخب، ومُستنكراً في تحطيم". علّه ينام هنيئاً اليوم بعد أن تُنثر بقاياه في هواء نقي، ويترك الكوابيس والأرق لمن بقي.