روسيا تعهد لأميركا بهواجسها الأمنية

بسام مقداد
الثلاثاء   2021/12/21

أعلن نائب وزبر الخارجية الروسية لشؤون أميركا الشمالية والجنوبية سيرغي ريابكوف يوم الإثنبن أن روسيا لم تتلق بعد الرد الأميركي الرسمي على المقترحات التي نشرتها الخارجية الروسية في 17 الجاري بشأن عقد مفاوضات فورية تتعلق بأمنها. وكان ريابكوف قد أعلن للصحافيين يوم الجمعة في 18 من الجاري أن روسيا سلمت "مسؤولة كبيرة" في الخارجية الأميركية  مقترحين: "معاهدة بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن الضمانات الأمنية" و"إتفاق حول تدابير لضمان أمن روسيا والدول الأعضاء في الناتو"، نصت على حظر أي توسع إضافي لحلف الأطلسي وإقامة قواعد عسكرية أميركية في الجمهوريات السوفياتية السابقة. وتقترح روسيا مفاوضات ثنائية مع الولايات المتحدة لا تشارك فيها دول أخرى، وذلك لتفادي "كثرة النقاشات"، وفقدان المفاوضات معناها في حال إنضمام دول أخرى لها برأي ريابكوف، كما تنقل صحيفة Gazeta.ru. وقال بأن واشنطن لا تزال عاجزة عن التخلي عن نمطيتها المعهودة في العلاقات مع موسكو، ويأمل بألا يستهين الأميركيون بمدى تغبر الأمور "وليس للأفضل"، ويرى أن العلاقات الأميركية الروسية بلغت "نقطة خطرة".

وكانت الناطقة بإسم البيت الأبيض جين ساكي، وفي  ردها على المقترحات الروسية، قد قالت بأنه لا مفاوضات حول الأمن الأوروبي "من دون حلفائنا وشركائنا الأوروبيين". ولم تكن روسيا تود لهذا النقاش أن يخرج إلى العلن، إذ قال ريابكوف رداً على ساكي بأنه لو قال الأميركيون عبر قناة مقفلة " حسناً، فلنجلس على الأقل ونرى"، لم يكن ليحدث هذا بعد أن خرج الأمر إلى العلن. 

كان ريابكوف إستبق المقترحات الروسية بمقابلة مع نوفوستي (أشرنا إليها سابقاً) مهد فيها لهذه المقترحات بالقول بأن هواجس روسيا الأمنية ومطالبها من الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في الناتو، سوف تظهر قريباً  على الورق وتسلم إلى الولايات المتحدة. وأخطر ما جاء في تلك المقابلة تشبيهه الوضع الراهن للعلاقات بين روسيا والناتو بزعامة الولايات المتحدة بالوضع عشية أزمة صواريخ كوبا العام 1962 التي وضعت العالم على حافة الحرب النووية. في رده على سؤال ما إن كانت روسيا ستنصب صواريخها في كوبا وفنزويلا ردأ على إقتراب الناتو المتزايد من الحدود الروسية، قال ريابكوف بأن إقتراب الناتو من الحدود الروسية  هو عامل قلق وعنصر إضطراب الوضع ليس في القارة الأوروبية فقط، بل وفي سائر أوراسيا. وذكّر بأن الرئيس الروسي حذر اكثر من مرة من إقتراب الناتو باسلحته الحديثة والدقيقة من المراكز الروسية. وكلما إقتربت هذه الأنظمة الحديثة من الحدود مع روسيا، كلما إرتفع خطر الإضطراب وتوضحت معالم الأزمة التي يمكن مقارنة خطورتها بخطورة أزمة الكاريبي. في تلك السنوات توصل السياسيون في واشنطن إلى الإستنتاجات المناسبة وابتعد الوضع عن النقطة الخطرة. أما ما سيحدث في المرة التالية فهو لا يستطيع التنبوء بذلك، لأن روسيا بحاجة إلى ضمانات قانونية وملزمة قانونيا، ولن تكتفي بالتعهدات اللفظية بتلبية مطالبها بإبعاد سلاح الناتو عن حدودها، وسحب القوات والأنظمة المزعزعة للإستقرار، والتخلي عن الإجراءات الإستفزازية، بما فيها المناورات العسكرية على أنواعها.  

أما في ما يتعلق بمخططات الناتو نشر أنظمة في المنطقة الأوروبية كانت محظورة بموجب معاهدة تدمير الصواريخ متوسطة وقريبة المدى(خرجت منها الولايات المتحدة)، يقول ريابكوف بأن روسيا لا تريد أن تنفذ هذه المخططات. لكنه يرى بان بعض الدلائل غير المباشرة تشير إلى أنها سوف تنفذ، والعودة إلى ما يسمى "قيادة المدفعية" التي كانت مسؤولة في القرن الماضي عن أنظمة صواريخ "Pershing 2  متوسطة المدى، تشير إلى أن الأميركيين وحلفاءهم يستعدون إلى تكرار تجربة أزمة الكاريبي المحزنة على قاعدة عسكرية تقنية وتكنولوجية جديدة. وروسيا لا تقنعها تأكيدات الناتو بأنه ليس لديه النية لنشر مثل هذه الأنظمة المزودة بالسلاح النووي. ويقول بأن روسيا لا تثق بحلف الناتو "الذي يعلن اليوم أمراً، وبعد غد أمراً ثانياً، وبعد سنة أمراً ثالثاً".

وبعد أن يدخل في تفاصيل رفض الناتو السماح لروسيا بمراقبة الصواريخ والتحقق من عدم تزويدها بالسلاح النووي، وكذلك رفضه مناقشة المقترحات الروسية، وعد بصياغة هذه المطالب على الورق وتقديمها إلى الولايات المتحدة حصريا وبحثها ثنائياً معها. ولم تطل المدة الفاصلة أكثر من 4 أيام بين المقابلة ونشر المقترحين الروسيين المذكورين. 

قبل يوم واحد من نشر المقترحين الروسيين، نشر مركز كارنيغي موسكو نصاً بعنوان "كيف كان لروسيا أن تتفق مع الناتو". يقول الموقع بأن التوسع في المطالب الروسية  يطرح مشكلة في أن تكون النتائج متواضعة للغاية بالمقارنة مع الجهود المبذولة في سبيلها. فمنذ قرابة الشهر والسياسة الخارجية الروسية تقود هجوماً إستراتيجياً نشطاً من أجل الوقف النهائي لتوسع الناتو نحو الشرق. وقد بدأ في 18 الشهر المنصرم، حين كلف بوتين الدبلوماسية الروسية في إجتماع موسع لوزارة الخارجية مسألة ضرورة حصول روسيا على  "ضمانات جدية طويلة الأمد لتوفير أمننا". وتسعى موسكو بهذه الطريقة الى إنهاء إعادة النظر لصالحها في شروط إختتام الحرب الباردة، والتي بدأت في القرم العام 2014. فالتحول في السياسة الأوروبية الذي تقترحه روسيا على شكل بحث "الأزمة حول أوكرانيا" بالشروط الروسية، هو تحول زلزالي. وعاد بوتين مطلع الشهر الجاري وحدد مقترحه السابق بالقول " في الحوار مع الولايات المتحدة وحلفائها، سوف نصرّ على بلورة إتفاقات ملموسة تنفي أي توسع لاحق للناتو نحو الشرق، ونصب أنظمة أسلحة تهددنا على قرب مباشر من الأراضي الروسية... أود أن أؤكد أننا بحاجة إلى ضمانات قانونية وشرعية، لأن زملاءنا الغربيين لم يفوا بالتزاماتهم الشفوية".

يعتبر الموقع أن خطابات بوتين في العام الحالي تظهر جيداً كيف تطرح روسيا مطالب مرتبطة ببعضها بشأن أمن حدودها الغربية. تلك "خطوط حمراء" جديدة لأوكرانيا، ضمانات بعدم توسع الناتو وجعل الجمهوريات السوفياتية السابقة في وضع مماثل لوضع فنلندا مع روسيا، إتفاقيات بشأن هندسة الأمن الأوروبي بمشاركة كاملة من روسيا. ويمكن تسمية هذا كله "توسيع إتفاقيات مينسك" الذي يعكس توسيع "الخطوط الحمراء"الروسية حيال أوكرانيا. فلم يعد دخول أوكرانيا في الناتو وحده خطاً أحمر، بل وظهور البنية التحتية للناتو في أوكراميا أيضاً.

بواسطة الإستعراضات العسكرية في العام الحالي، حصلت موسكو على بحث مباشر لأجندتها مع الولايات المتحدة. وحصل الإختراق الأول في قمة أونلاين مع بايدن، حيث بحثت روسيا هواجسها تجاه الناتو مع الولايات المتحدة منفردة من دون مشاركة حلفائها الأوروبيين. بالنسبة لبايدن ، لا يزال هذا تنازلًا صغيرًا لتهدئة الموقف مؤقتًا. ولكن بالنسبة له شخصياً كانت إشارة سيئة، حيث فرضت روسيا رؤيتها الخاصة لكيفية مناقشة بنية أمنية جديدة في أوروبا، ومنصة 5 + 1 هو تحالف جديد للقوى العظمى.

من وجهة نظر موسكو، يبدو أن الإختراق هو في كون الولايات المتحدة تعترف للمرة الأولى بأن لدى روسيا"هواجس" بشأن توسع الناتو، مع أنها كانت تعتبرها سابقاً "هواجس مختلقة". وأكدت التعليقات الأولى تضخم توقعات موسكو، والتي كان أيدها بوتين نفسه معربًا عن الأمل في "إنهم سيستمعون إلينا الآن".