الفقر كسياسة حكومية مدروسة

مهند الحاج علي
الإثنين   2021/11/15
نقطتان لافتتان في كلام مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان، أوليفييه دي شوتر، في ختام زيارة للبنان دامت 12 يوماً. الأولى على ارتباط بمستويات الفقر في لبنان، واحتمالات ديمومته، والثاني هو الرؤية الأممية للمسؤولية السياسية عمّا حل بالبلاد، وتراجع الآمال بتحقيق أي انجاز مع هذه النخبة الحاكمة الفاشلة.

في النقطة الأولى، تحدث دي شوتر عن الوضع اللبناني الجديد، بصفته مقيماً أو حالة دائمة، من دون أي مواربة. لبنان، وفقاً لهذا المسؤول الأممي، "كان ذات يوم منارة تسترشد بها المنطقة: مستوياتٌ عالية في التنمية البشرية وقدرات كبيرة"، لكن تدمير العملة الوطنية خرّب "حياة الناس" و"أفقر الملايين". وجاء في كلامه أيضاً أن الأزمة المتواصلة تحكم على "الكثيرين بفقر سيتوارثه الناس جيلاً بعد جيل"، أي أننا أمام تغييرات بنيوية لن تزول بعد خمس أو عشر سنوات، بل تخلق واقعاً اجتماعياً جديداً من الصعب تبديله سوى بسياسات لا تصنعها مثل هذه الزمرة الفاسدة المتحكمة بالبلاد.

ذاك أن نسبة الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان تضاعفت من 42% العام 2019، إلى 82% من مجموع السكان هذا العام، أي أن 77% من الأسر اللبنانية باتت فقيرة، وفقاً للأمم المتحدة.

لا ينسحب الفقر المتوارث هنا على فقدان المداخيل بالليرة اللبنانية قيمتها فحسب، بل أيضاً يشمل نوعية التعليم الذي يحصل عليه أفراد العائلة مع هجرة عدد كبير من الأساتذة وتأثر الباقين منهم بالأزمة الاقتصادية.

للتراجع في القيمة الشرائية انعكاس على قدرات التعليم الجامعي والعالي أيضاً، علاوة على تزايد احتمالات التسرب المدرسي نتيجة الاضطرار للعمل في سن مبكرة للمساعدة في اعالة العائلة. مثل هذه الظواهر تحدث، لا بل تتزايد مع اقفال المدارس (الرسمية تحديداً) وتحويلها الى نواد غير جدية نتيجة التعطيل المتكرر.

وهذا مرتبط الى حد كبير أيضاً بقدرة العائلات المتوسطة الدخل سابقاً على تحسين مداخيلها وتحقيق نقلة مع الجيل التالي نتيجة التعليم. تتسع رقعة انعدام المساواة، ويصير تسلق السلم الاجتماعي أكثر صعوبة نتيجة غرق أغلب السكان في الفقر.

ومن هنا مدخل مناقشة النقطة الثانية في كلام هذا المسؤول الأممي، أي السياسة المقصودة لتعميق انعدام المساواة بين السكان "وبشكل غير مقبول": "حتى قبل الأزمة، كانت فئة أغنى 10% من السكان تحصل على دخل يزيد خمس مرات عن فئة أفقر 50% منهم. وهذا المستوى الصارخ من عدم المساواة يعززه نظام ضريبي يكافئ القطاع المصرفي، ويشجّع التهرب الضريبي، ويركّز الثروة في أيدي قلّة. وفي الوقت نفسه، يتكبّد السكان ضرائب تنازلية تصيب أكثر ما تصيب أشد الناس فقراً. إنها كارثة من صنع الإنسان، استغرق صنعها وقتاً طويلاً".

عملياً، هذه سياسة عمرها عقود، وأساسها غياب البعد الاجتماعي بشكل كامل عن سياسات المسؤولين. لا برامح للرعاية الاجتماعية أو بنى أساسية للخدمات العامة، بل صب التركيز على "القطاعات غير المنتجة مثل المصارف، مضاعفاً الدين العام باستمرار، ومكرساً تلك الموارد لخدمته".

التقصير السياسي "مذهل"، وفقاً لدي شوتر، وصادم مدى "انفصال المؤسسة السياسية عن واقع الذين يعيشون في فقر على الأرض".

كلام هذا المسؤول الأممي، رغم تعبيره عن ضيق صدر المجتمع الدولي بالطبقة السياسية، هو لحظة توبيخ صريحة ونادرة قد نرى المزيد منها، لا سيما مع ارتفاع منسوب الاعتماد على التمويل الخارجي لإغاثة السكان. لا يرى المانحون أفقاً للخروج من هذه الأزمة الحالية، بل هناك اعتماد متزايد على الدعم الخارجي، دون رؤية أو خطة واضحة لمغادرة هذا النفق، ناهيك عن ضعف احتمالات التجديد ضمن الطبقة السياسية.

بدلاً من التركيز على وضع أسس اقتصاد منتج، نرى اليوم توجهاً لتحويل أغلب السكان الى مجتمع متسول يعتمد على المساعدات الخارجية لتوفير المقومات الأساسية للحياة. إنها حقاً جريمة مذهلة بحقنا.