همسات في ذكرى ثورة لم تحصل

ساطع نور الدين
الأحد   2021/10/17
© Getty

حتى الذكرى نفسها، ذكرى واحدٍ من أكبر المهرجانات السياسية في تاريخ لبنان، لم تجد من يستعيدها، يحميها، ويدافع عنها. مدة سنتين، ليست كافية للنسيان..ولا للغفران.

 الجمهور، الذي كان يردد القول " نازلين على الثورة" بصفتها كرنفال أناشيد وهتافات وشتائم، تلاشى تماماً. والسلطة التي كانت تشهد على فراغها، ونزاعها الأشد بين رموزها، كانت وما زالت تجاهد لسد الثغرات العميقة في جسدها، مستندة الى الاحساس الخادع بأنها تستند الى واحد من أقوى الانظمة العربية.

من تلك الذكرى التي ضاعت، حقيقة واحدة ما كان يجب ان تغيب، بإعتبارها أهم من المهرجان الثوري الذي عاشه لبنان على مدى ايام أو اسابيع قليلة.. هو أن تلك السلطة ومعها النظام الذي يغطيها، عبرا بالفعل، أصعب مراحل الخطر والتهديد في زمن السلم الاهلي المحدود في لبنان.

إستعادة تلك الحقيقة، يبدأ من الهمس الذي كان يدور في الشوارع على مسامع "الثوار والثائرات" قبل عامين: إنها لحظتكم التي لن تتكرر، إنها فرصتكم التي لن تعوض، إنها تجربتكم التي ينتظرها الجميع، والتي تختلف كليا عن كل التجارب السابقة، والتي تتقدم بمسافات شاسعة على جميع المحاولات الفاشلة التي مزقتها الايديولوجيات القاتلة، والتدخلات الخارجية المدمرة. إنكم تصنعون المناسبة الوطنية الاولى التي تتعالى على جروح الماضي وإنكساراته وهزائمه، وتعيد تشكيل الهوية، وتكوين الوطن.

لم يكن هذا الهمس يقصد التشجيع او التحريض، ولا طبعا التوجيه. كان مجرد قراءة مستعادة لما حلّ بالبلد منذ سبعينات القرن الماضي، وحتى ذلك اليوم، يوم 17 تشرين الاول /اكتوبر 2019. وكان مجرد تقدير، بأن ما شهدته ساحات وشوارع العاصمة والمدن الكبرى، هو تقصير للزمن الذي كان مطلوباً للتغيير والتحديث، وبناء نظام عصري طال إنتظاره، ودولة مواطنة مدنية طال ترقبها.

من دون التورط في الاحالة الى الربيع العربي، الذي لم يكن في الاصل عنصراً جوهرياً في إطلاق "الثورة" ولا في إلهام تحركاتها، كان الهمس يشير بوضوح شديد، الى أن الظرف الراهن ، يومها، هو الأنسب والافضل: العالم كله، تقريبا، يقف مع ثورة لبنانية تكنس أوساخ النظام اللبناني البالي. الغرب بالاجماع مؤيد لها، ولو بدرجات متفاوتة من الحماسة. العرب بمجموعهم الشعبي، وبغالبية أنظمتهم ، عدا ثلاثة أو أربعة منها، داعمون لأي تطوير وتغيير في لبنان، يفسح المجال لأجياله الشابة أن تملك زمام المبادرة، والسلطة.

ومن دون التورط في المبالغة، كان الهمس عالياً، بأن القوى السياسية المحلية إنكشفت بسرعة يومها،على صورتها الأبشع، الأكثر طائفية ومذهبية، والأشد فتنة وفساداً، بعدما دخلت في مواجهة هي الاشرس في ما بينها على الحصص والمغانم، بحيث كانت (وما زالت) مستعدة لتقويض البنيان العام للدولة، وتدمير هياكلها على رؤوس الجميع، إذا تعرض أحد مناصبها أو مصالحها للتهديد. كان إختراق المساحات الشعبية لتلك القوى أسهل من أي وقت مضى، وهو ما حصل بالفعل، لدى مختلف الطوائف، وكان إجتذاب جماهيرها يتم بلا جهد إستثنائي، وحتى بلا نداء.

ومن دون التورط في الاوهام، كان الهمس دقيقاً بأنها ستكون واحدة من أسهل وأنجح الثورات في العالم العربي على الاقل: ليس هناك قوى مضادة، منظمة، مؤثرة، قادرة على قمعها أو إحباطها. الهجمات المتكررة من جمهور الثنائي الشيعي على الثوار والثائرات، لم تكن لتؤثر في مسار الثورة، لو كان التنظيم والتخطيط والتنفيذ على مستوى ثوري متناسب. والاهم من ذلك أن الجيش والاجهزة الامنية كلها لم تكن ضد الثورة، ولم تكن تفكر أو تتوثب لإخمادها في مهدها. وهي حالة نموذجية نادرة، ليس فقط في المحيط العربي وحده.

كانت ثورة لم يدركها، شبانها وشاباتها، الذين غلبهم النسيان، وباتوا اليوم شهود زور على عودة السلطة الى سابق عهدها، وعودة رموزها الى طلب تجديد شرعيتهم في صناديق الاقتراع، التي سيكتسحونها في الربيع المقبل، بلا منازع.

هل هو سؤ حظ؟ أم سؤ فهم لثورة لم تحصل، لأنها كانت سابقة لأوانها؟ ربما.