فوائد السلطة في مصائب طرابلس

مهند الحاج علي
الجمعة   2021/01/29
لم تتأخر السلطة السياسية وأقطابها في الرد على انتفاضة طرابلس، على مستويين، الأول في استخدام العنف، والثاني هو التشكيك في دوافع المشاركين في الاحتجاجات. لكن احتجاجات طرابلس ليست حدثاً عابراً في السياسة هذه الأيام، بل تميط اللثام عن بعض الغموض الذي يعتري العملية بأسرها. ذاك أننا لا نفهم اليوم بشكل كامل لماذا لم تُشكل حكومة، بما أن إدارة الرئيس دونالد ترامب قد رحلت، ولأن تردي الوضع الاقتصادي والأمني يضر بمصالح الطبقة السياسية. لا ينسحب هذا التسلسل المنطقي على الطبقة السياسية وتفكيرها، بل الأولوية دوماً لتوزيع الحصص. وهذا مسار يتمتع بحياة منفصلة عن الواقع اليومي للبنانيين.

لهذا على هامش الحدث الطرابلسي، علينا التفكير بالنقاط والاحتمالات الآتية:

أولاً، احتجاجات طرابلس تحديداً ليست كغيرها. يعني على سبيل المثال، لو وقعت هذه الاحتجاجات في مناطق نفوذ القوى الأساسية المُعرقلة لتشكيل الحكومة، أي "التيار الوطني الحر" و"حزب الله"، أو حتى في العاصمة، لكان لها أثر أكبر في السياسة. صحيح أن طبق التخوين واتهامات التسييس والاستغلال والتسلل جاهز دائماً، لكن الضغط الشعبي في مناطق القوى المُعرقلة، من شأنه تحريك الوضع باتجاه أو آخر. في طرابلس، يؤثر الاحتجاج في فضح فشل السياسيين أصحاب النفوذ الأثرياء في المدينة، ومنهم رئيسان للوزراء ووزير للمالية، في تحسين معيشة الناس، إذ يبدو أنهم أسهموا بطريقة ما في إدامة واقعها المؤلم وتعميقه بما يخدم مصالحهم فحسب.

لكن وبعيداً عن هذا التأثير، يُعتبر دخول الإسلاميين أو التلويح بذلك، مفيداً للقوى المُعرقلة، بغض النظر عن الحقائق على الأرض، سيما في ظل عدم انضمام مناطق أخرى الى قافلة الاحتجاجات. وهذا يجب الانتباه اليه والإضاءة على استغلاله، سيما أننا أمام منظومة متكاملة تبث الخوف والاشاعات.

أولاً، يُقدم هذا الوضع فرصة سانحة للأجهزة الأمنية الموالية للسلطة لإخراج صورة مؤذية لحركة الاحتجاج، إن كان عبر أعمال عنف، وربما حتى دس إسلاميين في المشهد. وهذه ممارسة دأبت عليها السلطة، كما أفادنا أحد وزراء داخليتها السابقين. وحصر الاحتجاج بالعنف وإحراق المباني الحكومية، وإظهار قوى الأمن كضحية، ينعكس سلباً على قدرة العدوى، أي انتقال التظاهرات الى مناطق أخرى في أنحاء البلاد، كما حصل سابقاً. والعدوى هنا ضرورية، وهي قادرة على التأثير في الوضع السياسي.

ثانياً، يمتهن هذا العهد الفراغ، وحوّله الى سياسة مع تعطيل العمل الحكومي، وأيضاً الحديث عن تمديد رئاسي. ورغم النفي اللاحق لذلك، يتسرب من أوساط قصر بعبدا أن هناك بحثاً جدياً في فتوى دستورية لـ"تصريف أعمال رئاسي"، تماماً كما يحصل في رئاسة الحكومة بعد أي استقالة. طبعاً، إحدى الحجج المطروحة هنا هي الميثاقية، والمساواة بين الطوائف. عملياً، يُخطط العهد بالتعاون مع عرّابه "حزب الله" لفراغ طويل الأمد، بغض النظر عن النتائج الاقتصادية والأمنية المترتبة على ذلك. باتت الأعمدة للسياسة الحالية هي رفع الدعم بشكل تدريجي، وتجنّب أي قص للودائع وتحميل الخسائر للمودعين حصراً، وإلغاء مفعول الانتخابات. باتت العملية الانتخابية في لبنان، أشبه باستفتاء كل عشر سنوات أو كل جيل تسلب الناس حقهم في الاختيار تحت حجج أمنية وظرفية مُفتعلة.

ثالثاً وأخيراً، لم تعد المبادرة الفرنسية بصفتها بوابة للإصلاح مناسبة كمخرج للسلطة السياسية. ليس "حزب الله" ولا العهد ولا أقطاب السلطة بوارد القبول بالإصلاحات، نظراً لطبيعتها البنيوية وانعكاساتها السياسية، بغض النظر عن الشعارات المطروحة. البديل اليوم هو تدخل خارجي من نوع آخر، لإعادة عقارب الساعة الى ما قبل عام 2005، ذلك أن صناديق الاقتراع باتت مصدر خطر للعهد والحزب والطموحات الرئاسية لجبران باسيل الذي لن يرى النيابة في أي انتخابات، ناهيك عن جمع كتلة وازنة تتيح له دخول قصر بعبدا، أو على الأقل المطالبة بها.

من هنا، قد تكون أحاديث وتحذيرات السلطة وأبواقها من عمل عسكري للإسلاميين، أو تحرك ما ضد الدولة، بوابة لانهيار أوسع نطاقاً، يفتح المجال لدور عسكري ما (بميليشيا أو قوات أسدية أو هجينة لبنانية-سورية) برعاية روسية يُعيد خلط الأوراق السياسية في لبنان. صحيح أن هذا السيناريو يبدو اليوم منفصلاً عن الواقع، لكنه مطروح على بساط البحث، وعلينا دوماً لفهم سياسات العهد وعرّابيه ومخططاتهم البحث في الزوايا المُظلمة جداً جداً لمخيلتنا.