الأوبئة الكاشفة

شادي لويس
الثلاثاء   2020/03/03
الوباء هو اللحظة الممتدة والعائدة دوماً إلى انهيار الاجتماعي. حالة الاستثناء لتعطل قواعد الاجتماع الإنساني. الخوف من الآخر بالمُطلق، كقاعدة وحيدة باقية. الآخر القريب والحميم بالأخص، يصبح تهديداً. يختبئ الناس خلف جلودهم، العزل الذاتي، والحجر الصحي الواسع، المفروض من أعلى، على أفراد وأحياء ومدن ومقاطعات بأكملها. حظر التجوال غير المعلن، التوجس بلا تمييز من جنس أو عرقية أو لون. حينها، تصبح الإصابة أو الاشتباه فيها، وصمة متضمنة لعقوبة الوحدة والنبذ. 

ينصح وزير الصحة الفرنسي، مواطنيه، بتفادي التحية التقليدية، القُبلة على الخدّ. وتنقل الصحف البريطانية السيارة، الخبر، بتحريف مقصود، وسخرية تاريخية مرتبطة بصورة الجار المتهتك والفضائحي: "وزير الصحة الفرنسي يحظر القبلات". بالإنجليزية، المرض فرنسي دائماً، مثل الألفاظ النابية. غريب وأجنبي، لكنه قريب جداً أيضاً، الزهري هو "المرض الفرنسي"، وككل جائحة أخرى، يأتي بتحذير من الحميمي، من التلامس والجنس والتعبير عن الحب بصوره الكثيرة.

الوباء المنسي، والأكبر في تاريخ البشرية، الجائحة التي قتلت في مطلع القرن العشرين حوالى مئة مليون إنسان، حملت اسماً مخادعاً ودالّاً، "الإنفلونزا الإسبانية". كان المرض تطور في مزرعة في ريف تكساس، وانتقل مع الجنود الأميركيين إلى أوروبا، منتشراً كالنار في خنادق الحرب العالمية الأولى، بطول أوروبا وعرضها، ممتداً إلى ساحات القتال في الشرق الأوسط. وبعد مئة عام، أعلن فريق بحثي بريطاني أن مركز الوباء كان معسكراً حربياً فرنسياً. آخرون توصلوا إلى أن الصين كانت المصدر، ومنها إلى الولايات المتحدة، ولهذا تحديداً كانت الصين البلد الأقل تأثراً بالوباء حينها. كان المرض يحصد حيوات مئات الآلاف أسبوعياً، من صفوف الجانبين المتحاربين، وسط تكتم كامل للحفاظ على "الروح المعنوية" للجنود، وكان الموضوع محظوراً على الصحافة بقرارات عسكرية. وفي الهند البريطانية، قتل الوباء عشرات الملايين. مواطن، بين كل عشرين، فقد حياته خلال أقل من عامين، وحجبت السلطات الاستعمارية أي أخبار عن المرض. وحدها الصحافة الإسبانية غطت أخبار الوباء، وكانت إسبانيا محايدة في الحرب، وصحافتها أكثر حرية. نقلت الصحف الغربية عنها، وأضحى المرض إسبانياً، يقرأ عنه الجميع ويتعجبون: لماذا وحدهم الإسبان مَن أصابهم الوباء!

تبخر الوباء من ذاكرة الجميع سريعاً. فالناس حينها كانت تموت بعشرات الملايين، بأي حال، في الحرب أو من الجوع ببساطة. لكن مؤرخي الأوبئة يقولون إن الإنفلونزا الإسبانية غيّرت التاريخ، حسمت الحرب الأولى لصالح الحلفاء، فخسائر أعدائهم من المرض كانت فادحة، وباتت سلطة الراج البريطاني في الهند في حكم المنتهية بعد الانهيار الكامل للإدارة العامة أثناء الجائحة. سويسرا كادت تسقط في حرب أهلية، وحكومة جنوب إفريقيا اتخذت قفزات واسعة في اتجاه الأبرتهايد.

لا يأتي فيروس "كورونا" بقصة جديدة، بالكاد يتوقع أحد جائحة تشبه خراب الماضي. ثمة مصل قيد التطوير بالفعل، في الولايات المتحدة. عام على الأكثر، وسيطرح في الأسواق. لن يغير كورونا، التاريخ، لحسن الحظ، لكنه قادر على كشف الكثير عن الوضع القائم، أو على الأقل يؤكد ما نعرفه بالفعل، مختوماً بالموت. الكتمان والإنكار والكذب الرسمي في البداية، كانت كلها من أسباب الانتشار الوبائي في الصين. السلطات الكورية توجه اتهامات لقادة كنسيين لمسؤوليتهم عن إخفاء بيانات حاملين للمرض، ويؤمن هؤلاء بالشفاء عبر معجزة. الإيمان على محك الشك، الدين والطقوس أيضاً، أوقفت الكنائس في كوريا اجتماعاتها، كهنة كنائس كاثوليكية حول العالم يمتنعون عن وضع المناولة في أفواه المتعبّدين، ويكتفون بوضعها في أيديهم. السعودية ألغت تأشيرات العمرة، وفي إيران ما زالت المزارات المقدسة مفتوحة، والإصابات تفاقم.

في مصر، تُكتشف الحالات الخارجة منها فقط. وفي ظل تعتيم رسمي، تنتشر الإشاعات. الوباء بيئة خصبة لنظريات المؤامرة، "الكورونا" حرب بيولوجية تشنها الولايات المتحدة ضد الصين وإيران، هكذا يقولون. في أميركا، ترامب نفسه، ومؤيدوه، يتهمون الميديا بشن حملة ترويع ومبالغات، بهدف تشويه إنجازات فترته الرئاسية، وتقليص فرصه في الفوز في الانتخابات المقبلة. مسؤولون صحيون في الولايات المتحدة وخارجها، يعترفون بأن المنظومات الصحية المحلية والعالمية ربما تكون غير مؤهلة للتعامل مع الوضع. بعد عقود من خفض ميزانية الخدمات الصحية، والتقشف العام حول العالم، والاقتطاع من تمويل منظمة الصحة العالمية، تبدو مخصصات الإنفاق العام وسياستها مسألة حياة أو موت، وليس مجرد خلاف إيديولوجي أو موضوع يخص الخبراء الاقتصاديين. أسواق الأسهم تنهار بمعدلات العام 2008، سلاسل التصنيع تتعطل، هوس بتخزين الأغذية والأدوية في أكثر من بقعة حول العالم، مجهودات بطولية وقصص تضحية مؤثرة وأشكال مبهرة للتضامن تخرج من الأماكن المنكوبة في الصين وغيرها.

كورونا، ككل جائحة، حين يصبح الخطر في الهواء، في أنفاس الآخرين، وعلى كل سطح، خفي وحاضر في كل شيء، يتكشف الأفدح والأنبل في معنى اجتماعنا البشري. تُفتح أسئلة عن الحياة والموت، في الأساس، تذكّرنا بأن العولمة والحدود الوطنية، السلطة والسياسة، والبحث العلمي، مخصصات الموازنات والخدمات العامة، الإيمان والطقوس، والإعلام الحر، والعِرق والعنصرية، الشفافية الحكومية، بيروقراطية المنظمات الدولية وبنود اتفاقات التجارة. كل هذا يتقاطع، بشكل أو بآخر، ليحدد مصير كل منا، بشكل خاص جداً، وقريب جداً، أكثر مما نتصور.