هذيان المذعور

حازم نهار
الأحد   2020/10/25

نحن نواجه العالم ونخاطبه ككائنات مذعورة، أدواتنا هي الصراخ والنواح وادعاء المظلومية. كلما ازداد اهتراؤنا في الحاضر زادت رؤيتنا إلى ماضينا قدسية، ومن ثم يرتفع معدل الهيجان ودرجة الحساسية. هذا العالم يسبب لنا الذعر اليوم، نغطي ذعرنا أو نداريه بالصراخ، تمامًا مثل ذلك المرء الذي يسير ليلًا محدثًا نفسه للتغطية على خوفه من عواء الكلب.

نحن نعشق النواح، وتطربنا المظلومية، ونسعد بالنظر إلى أنفسنا ضحايا تآمر وخديعة واستغلال الآخر؛ ففشلنا يكمن في لا أخلاقياتهم وقيمهم الفاسدة، لا في تفكيرنا. نقنع أنفسنا بأن العالم يتربص بعقائدنا وأخلاقنا، ويخاف منها، مع أنها في الحقيقة لا تعنيه، فهذا يُشعرنا بالاطمئنان تجاه ما نحمل في رؤوسنا، وليس له من تفسير سوى أهمية قناعاتنا وعقائدنا وأنماط حياتنا. نحن بخير، نعم نحن بخير، الإسلام والمسلمون والعرب والكرد والأتراك والإيرانيون، وغيرهم، كلهم بخير، ولا مشكلات لدينا، كل المشكلة أننا ضحية هذا العالم "المنحط"!

يتصالح المذعور، في المآل، مع قيمته البخسة في الحاضر، لكنه لا يتقبل النيل أبدًا من ماضيه أو الحطّ من قدر "أجداده" في الماضي، فهذا يستفزه كونه الاعتبار الوحيد المتبقي. لنسأل العكس؛ لو انتفى ذعر المذعور في الحاضر، ولو توصل إلى شيء من الاعتبار في الحاضر، هل ستستمر نظرته إلى ماضيه تكتسي طابعًا قدسيًا يجعله ينفجر أو ينتحر أو يهذي عندما يتعرض له أحد بالنقد أو السخرية؟!

ما الذي يُذعرنا؟ إنه خواء الذات والعجز الفاضح والأفق المسدود؛ ليس سهلًا أن نعيش بلا قيمة واعتبار، وليس ممكنًا الاستمرار ونحن نحمل العجز وقلة الحيلة على أكتافنا، وليس أمرًا قابلًا للاحتمال العيش من دون مستقبل. هنا ربما تصبح خياراتنا محدودة؛ إما الانتحار أو الانفجار أو الهذيان. نحن اليوم، نسير في الطرق هذه كلها.

خياراتنا السياسية الانتحارية كثيرة جدًا؛ منها أننا ما زلنا نطبل ونزمر لفصائل وجماعات عدمية قادرة على صناعة الموت، ولا تقوى على البناء ولا تهتم بصناعة الحياة، ومنها أننا ما زلنا نتوسم الحلول في جيب الآخر وسفاراته وأجهزته، ومنها أيضًا استمرار قناعاتنا بإمكانية بناء إمارات طائفية أو مذهبية أو إثنية على جثة سورية. كلها خيارات يائسة ولا تصنع حياة، إنها خيارات انتحارية.

خياراتنا الانفجارية هي الأخرى كثيرة جدًا؛ نمسك بتلابيب قصة صغيرة ونفجرها بوجه أصحابها، ولا يهنأ لنا بال إلا بقتل أصحابها أو التمتع بآلامهم، نفرح بالحرائق التي تصيب زرعنا وغرسنا، ننفجر في وجوه بعضنا بعضًا عند أول خلاف في الرأي، نضيف إلى أزمتنا الرئيسة مع نظام الاستبداد أزمات وانفجارات جديدة تأخذ طابع التشظي والتذرر اجتماعيًا وسياسيًا، وهكذا. 

أما الهذيان فقد أصبح سمة وعينا الجمعي، ومسار عمل يومي؛ في الهذيان نبحث عن حلول وهمية أو تعويضية لأزمتنا وآلامنا المبرحة وهزائمنا وخوائنا في الواقع. نخترع معارك وهمية نشعر فيها أننا جزء من جماعة ما، جماعة دينية أو طائفية أو إثنية أو أيديولوجية، لنحقق أمرين؛ ندفع عن أنفسنا الذعر من الواقع بارتباطنا بالجماعة، ونركِّب ميدان المعركة وأطرافها بطريقة تضمن لنا "الانتصار" وفق مقاساتنا. سننتصر في معركتنا مع "ماكرون" و"أذنابه"، لكن لن يعلم هذا الـ "ماكرون"، ولا سواه في العالم، أننا انتصرنا. نحن المذعورين وحدنا من سيعرف أننا انتصرنا. سنشتمه وسنسخر منه، وسنحرق علمه "المقدس". هذا "الانتصار" سيجعلنا نحتمل هزيمتنا في الواقع مدة من الزمن، بانتظار معركة وهمية أخرى.

بالنسبة إليَّ، ليس الآخر ونياته ومصالحه هي المعيار في هذه النقطة بالذات، فقد يكون "منحطًا"، أو ربما يريدني أن أُستجرّ إلى ساحته، أو يريدني أن أثبت له رؤيته تجاهي، وربما يريد من تحركاتي المتوقعة بالنسبة إليه أن يثبت وجهة نظره ضد خصومه السياسيين، طمعًا في مكاسب انتخابية أو اقتصادية أو ربما دعمًا لقرارات ينوي اتخاذها.

"انتصرنا" في الماضي برفقة "النظام السوري" في 4 شباط/ فبراير 2006 الذي كان يوم "غضب لله والرسول"، عندما أحرقنا مبنى السفارة الدانماركية في دمشق ردًا على الرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها صحيفة "غيلاندز بوستن" الدانماركية. وقد سهلت الحكومة السورية وقتها ذلك "الانتصار"، فقد أوعز رئيس الوزراء العطري، بحسب "ويكيليكس"، قبل أيام من أعمال العنف، إلى مفتي سورية أن يطلب من الأئمة استخدام "عبارات قاسية" في خطبة الجمعة "من دون تحديد سقف للكلام المستخدم"، وأفسحت الحكومة السورية المجال لاستمرار أعمال الشغب مدة طويلة، وعندما رأت أن "الرسالة وصلت، تحركت لوقفهم مهدِّدة باستخدام العنف". وكانت رسالة "النظام" إلى الغرب "هذا ما ستنالونه إن أجزنا لديموقراطية حقيقية وتركنا الإسلاميين يقرِّرون"، وفي الوقت نفسه، أراد أن يُظهر لـ "الشارع الإسلامي" أنه يحمي "كرامة الاسلام". الكل يلعبون بنا، ويسخرون منا، فيما نحن مستمرون في الهذيان واللهاث وراء معاركنا الوهمية. جدير بالذكر أن جريدة لوموند اليومية الفرنسية أعادت وقتها نشر الرسوم اقتداء ببعض الصحف الأوروبية.

هذه المعارك الوهمية و"الانتصارات الإلهية" تعادل في طبيعتها جرعة الكحول أو المخدرات عند المدمنين؛ مع الجرعة يبتعد المرء عن خوائه وعجزه في الحياة الواقعية، ويقترب شيئًا فشيئًا من الامتلاء والشعور بالاعتبار الذاتي. في لحظات يصبح المدمن "أبو زيد الهلالي"، لكن في بقية الزمن يعاني القلق ونقص القيمة وعجز الحال. كلها محاولات مؤقتة لردم هوة الخواء الوجودي والعجز عن الفعل.

تُبهرنا الرؤى التبسيطية والمسطّحة؛ ما دام الآخر يهاجمنا فنحن على صواب، وما علينا سوى صرف الوقت والجهد، واستنزاف طاقاتنا النفسية في الردّ عليه، أما سؤال الواقع الهزيل وسؤال المستقبل المسدود فلا قيمة لهما في حساباتنا. يشغلنا الدفاع عن معتقداتنا أكثر مما تشغلنا أسئلة الحاضر والآتي، أكثر مما يشغلنا الاستبداد والاقتصاد والحقوق، ونهتم كثيرًا برؤية الآخر إلينا، ونتمنى أن ينظر إلينا باحترام، تعويضًا عن مهانتنا المزمنة في الواقع. في الحصيلة، نحن نبحث عن مسكنات لآلامنا في الحاضر ليس أكثر، تنفع في إعانتنا على التأقلم مع واقع الهزيمة والعجر ونقص الاعتبار.

أمام الفشل المزمن الذي راكمناه، وساهم الآخرون، وهم كثر، بالضرورة، في جزء منه، نحن في حاجة إلى إنجاز، إلى انتصار ما. تنفع هذه المعارك الوهمية، و"انتصارنا" المحسوم فيها، في تخفيف قلقنا وتوترنا، لكنها لا تحل أيًا من مشكلاتنا السياسية أو الاقتصادية، ولا أزمة الثقافة والعقائد والأديان والطوائف والعشائر التي غرقنا فيها. إنها تحافظ على هشاشتنا وتعيد إنتاجها باستمرار. نستنزف طاقاتنا في إجراءات الوقاية من الآخر، بدلًا من تعزيز قدرات الذات، في الثرثرة والكلام بدلًا من البناء والإنجاز الفعلي.

بعد صمت المعارك الوهمية، والهذيان الجمعي المرافق لها، نعود إلى الانكفاء على الذات، بين الحيطان الأربعة، لنجد أن أيًا من مشكلاتنا الفعلية لم يُحل، فنغرق في الاكتئاب، ويعود القلق العصابي ليغزو أرواحنا، بانتظار معركة وهمية جديدة. لكن، على الرغم من قلقنا وذعرنا، يقبع في وعينا الجمعي شيء من الاطمئنان أقرب ما يكون إلى "العدالة الإلهية"، و"الحق الذي سينتصر في نهاية المطاف"، و"الخلاص بقدرة قادر" أو "بسحر ساحر"، مع أن التاريخ متخم بجماعات بشرية، دينية وقومية، اندثرت ولم يبقَ لها أثر.

رؤيتنا إلى تاريخنا سحرية؛ أذكر أستاذي المعارض في المدرسة كيف كان يتحدث بفخر واعتزاز عن الحجاج بن يوسف الثقفي، قاطع الرؤوس. لا يقبل أستاذي، ولا أكثريتنا بالطبع، أن يتناول الآخر "أبطالنا" بسوء. المسلسل التركي الجميل حقًا، قيامة أرطغرل، يحفل بنظرتنا السحرية إلى الماضي، لكنه يُسعدنا لأنه يخلصنا من كياننا الخاوي في الحاضر؛ نحمِّل أرطغرل كل نواقصنا، البطولة والأخلاق والكرامة والمكر والبناء، لنجلس بعدها مرتاحي الضمير قانعين بحاضرنا ومستغرقين في الماضي، مع أن الأمنية أن تلعب مثل هذه الأعمال الفنية دورًا في تحريضنا على رفض أنفسنا في الحاضر، واستعادة اعتبارنا وفق منطق الحاضر لا الماضي.

لغة الآخر وخطابه مختلفان كليًا عن لغتنا وخطابنا، لا نحن نفهمه، ولا هو يفهمنا، لكن المشكلة أن لغته وخطابه كونيان، وهما منطق التاريخ والواقع، فيما لغتنا وخطابنا يشتقان شرعيتهما من الماضي فحسب. معظم الحوارات بين الشرق والغرب لم تنتج اتفاقًا، اللهم إلا بعض النتائج التي تفوح منها رائحة التواطؤ ثنائي الجانب، ومحاولات الاندماج والإدماج في معظمها، خلال السنوات الخمسين الماضية، انتهت بالفشل. نحن كائنان مختلفان، نحن كائن محلي مشدود إلى الماضي بقوة، فيما هو كائن كوني، عالمي، ومسيطر، في السياسة والثقافة والعلم والإنتاج.

عندما تختنق "الصوبيا" نضربها لتعاود الاشتعال، وكثيرًا ما نفعل الأمر نفسه مع التقنيات الحديثة. أخذنا التقنيات عن الآخر الذي نكرهه ويتسبب في إيلامنا بتفوقه في كل لحظة، لكننا لم نقترب من العقل الذي أنجزها، من قوانين الرياضيات والفيزياء التي تحكمها، ومن الفلسفة الكامنة في ثناياها وأرواحها. لو تنطق هذه التقنيات لقالت لنا إنها مشبعة بروح ديكارت وسبينوزا وابن رشد والخوارزمي وروسو وماركس ودافنشي وابن الهيثم وغيرهم.

وعليه، فليس غريبًا أن تستفحل حالة الهذيان الجمعي كلما استفحلت حالة القهر والعجز والخواء، وليس غريبًا أن تنتعش الأصوليات والدكتاتوريات. لكن يقينًا ليس أهل الشرق هم الوحيدون الذين عاشوا تجربة الهذيان الجمعي؛ فألمانيا المهزومة في الحرب العالمية الأولى، والفقيرة والمحاصرة والمأزومة بعدها، فتحت أبوابها لحالة من الهيستيريا الجماعية التي أنتجت النازية في المآل. لكن ألمانيا نفسها، المهزومة في الحرب العالمية الثانية، والمحطمة والمجزّأة بعدها، استفادت من تاريخها، ومن تجربة الهذيان التي عاشتها، وتجاوزتها، وسارت في طريق مغاير، طريق المراجعة النقدية والثقة بقدرة الذات على صناعة مستقبل آخر.