حزب الله وإسرائيل:حصاد الجريمة

عمر قدور
الثلاثاء   2019/09/03
مستوطن اسرائيلي في المطلة(عزيز طاهر)
مثيرة للسخرية تلك الحرب الإعلامية الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل، والمفارقة الأولى فيها وجود يقين لدى الجميع بأن الوضع تحت السيطرة، وبوجود تفاهم لدى الطرفين على تصعيد محدود يخدمهما. ومثيرة للسخرية لأن المناوشات التي حدثت أقل بكثير مما يتوعد به كل طرف، وأقل بكثير من الأهداف المعلنة التي تتطلب حرباً محدودة وذكية إن لم تكن حرباً شاملة. ولا شك في أن ما يزيد من المفارقات الساخرة محاولة الحزب لبننة المعركة مؤخراً، بخلاف توعده السابق بالحلف الإيراني الذي يمتد من الحوثيين إلى الجنوب اللبناني، وبخلاف ما يعرفه الجميع عن المعركة المترابطة للحلف وعن غياب الدولة اللبنانية التي تمتلك قرار السلم والحرب.

في غضون ذلك كله تُغيّب سوريا كقضية، ويُنظر إليها كساحة من ساحات تصفية الحسابات بين الطرفين، وكأن كل ما يحدث غير متصل بتطورات الشأن السوري. كأن صواريخ حزب الله الدقيقة مثلاً لم يكن لها وجود قبل ثماني أو تسع سنوات، وكأن إسرائيل لم تكن قادرة على استهداف خط الإمداد الإيراني أيامها، رغم حرية طيرانها في التحرك والاستهداف قبل اندلاع الثورة وضعف واستضعاف حكم بشار على النحو الذي جرى لاحقاً. 

وإذا عدنا إلى ما قبل أربع سنوات خلت، لم يكن الاشتباك الإسرائيلي-الإيراني أو بين إسرائيل والحزب قائماً كما نراه اليوم، مع أن الميليشيات الإيرانية "ومنها الحزب" كانت تصول وتجول في سوريا على هواها، وكانت خطوط الإمداد مفتوحة على آخرها. هذا لا يفسّره مأزق انتخابي يعيشه نتنياهو اليوم، ففي المحصلة إسرائيل ليست مزرعة لحاكم أوحد مستبد يتعامل مع البلد كمزرعة له، بل هناك مصالح أمنية عليا لا تتيح لمن يحكم سوى التحرك ضمن هوامش واجتهادات شخصية محدودة. 

لا نحتاج ذاكرة عميقة جداً كي نرى تصاعد الاشتباك الإسرائيلي-الإيراني منذ أربع سنوات على وجه الدقة، ولا يصعب علينا تذكر دلالات هذا التاريخ إذا ربطناه ببدء التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا. للتذكير، خلال أربع سنوات ونصف سابقة على التدخل الروسي كان المحور الإيراني يغيّر شعاراته، فهو قد بدأ الحرب على السوريين تحت رايات طائفية من نوع "لبّيك يا زينب"، ثم صار الحزب يروّج لطريق قُدْسـ"ه" التي تمر بمناطق سورية مثل يبرود والقصير وحتى حلب في الشمال البعيد. بينما لم تكن تل أبيب تكترث بتلك الحشود السائرة على طريق القدس (!)، ولم يقم طيرانها بقصف أيّ منها ولو على سبيل نجدة "الإرهابيين" التابعين لها كما راح يروّج إعلام الممانعة.

لن نذهب إلى القول أن الميليشيات الإيرانية كانت بالمعنى المباشر، والمتفق عليه بين الطرفين، تنفّذ مهمة إسرائيلية-إيرانية مشتركة، فمثل هذا الافتراض قد تكشف عنه وثائق تُنشر عادة بعد مدة كافية من الكتمان. ما يمكن الجزم به أن تل أبيب كانت راضية تماماً عن الجريمة الإيرانية في حق السوريين، وراضية تماماً عن تدخل الميليشيات الشيعية لإنقاذ بشار الأسد من السقوط، وفي العديد من المناسبات عبّر واحد من أركان حكومتها عن ألا مشكلة لإسرائيل مع بقاء بشار. في تلك الفترة الحرجة قبل التدخل الروسي، كان لأي تدخل حقيقي من الطيران الإسرائيلي أن يقلب المعادلة فعلاً، فكما نذكر خرج بشار إلى العلن عام 2015 ليصرح بعجزه عن السيطرة سوى على جزء من سوريا قبل مجيء النجدة الروسية.

كان أفضل حسنُ ظنٍّ في تلك السنوات يذهب إلى تحليل موقف تل أبيب بوجود مصلحة إسرائيلية باستنزاف الحزب في سوريا، وتالياً إضعافه في لبنان. لكن تلك الفرضية "التي قد تصحّ نسبياً" تتجاهل عدم تخوف إسرائيل من عدد مقاتلي الحزب، واقتصار هواجسها على نوعية الأسلحة التي يمتلكها بخاصة القوة الصاروخية. تتجاهل تلك الفرضية أيضاً أن انتصار إيران والحزب في سوريا هو بالمدلول الاستراتيجي انتصار في لبنان وفي المنطقة، وحتى من دون تحققه شهدنا كيف استقوت قبضة الحزب داخلياً "أو أقله ظهرت إلى العلن" مع تدخله في سوريا، وكان أول الذرائع إسكات بعض الأصوات اللبنانية التي عارضت التدخل في سوريا.

لا يصعب علينا القول أن بقاء بشار كان أولوية إسرائيلية، ولو مرحلياً، وعندما أتى التدخل الروسي لإنقاذه بعد فشل طهران تغيرت الأولويات. إن مجرد دخول الروسي بثقله كان يؤشر إلى أن الجريمة في حق مطالب السوريين في التغيير دخلت في طور الإكمال، وحانت لحظة حصاد الجريمة من قبل الأطراف التي شاركت في مختلف أطوار تنفيذها. من وجهة نظر إسرائيلية، أدت ميليشيات طهران قسطها على أكمل وجه، وحانت لحظة اقتسام الحصص، واللعب في مرحلة ما بعد إبقاء الأسدية "ببشار أو من دونه" تختلف قواعده عما قبل.

وكما نعلم أدت الماكينة العسكرية الروسية عملها بجدارة، بخلاف الماكينة الدبلوماسية التي لم تتمكن من إدارة توزيع الحصص، ولم تتمكن خاصة من تلبية مطالب تل أبيب بإبعاد إيران مسافة كافية عن حدودها ووقف خط إمداد الحزب بتقنيات متطورة. ومن الواضح أن موسكو مضطرة لترك تل أبيب وطهران تصفّيان حساباتهما بما لا يعيق مسارها الخاص في سوريا، لعجزها عن فرض مسار آخر على الجانبين، وبسبب إيقاعها البطيء في منافسة طهران على المفاصل الحساسة في سوريا، الإيقاع الذي لا يتناسب مع المطالب الأمنية الإسرائيلية الملحة.

بينما يكثر الحديث عن صراع النفوذ، ربما علينا في كل لحظة التذكير بأن الصراع المنضبط الحالي هو صراع على حصاد الجريمة التي ارتكبتها أطرافه في حق السوريين، وأن المكاسب التي تُجنى اليوم هي فوق أرواح ما يقارب مليون سوري. الهدف من التذكير لا يقتصر فحسب على حقوق الضحايا التي لا ينبغي أن تتقادم أو تموت، وإنما أيضاً للتذكير بما هو مشترك بين خصوم اليوم، وما قد تثبت الأيام أنه أمتن من خصومة ظاهرة.