إنها الحرب..الذكية

ساطع نور الدين
الأحد   2019/08/25
لمن لا يزال يتساءل عن الحرب ومواعيدها وأشكالها وأدواتها وأطرافها، الجواب مرة أخرى هو: نحن الآن في حالة حرب فعلية، يتم فيها تبادل العمليات والضربات،وتستخدم فيها الآن مختلف أنواع القوات والاسلحة، عدا الجيوش التقليدية وأسلحتها البرية تحديداً، التي باتت، ومنذ زمن بعيد، مخصصة لإستهداف المدنيين والتسبب بمذابح تجبر العدو على إعلان الاستسلام، أو طلب وقف النار والتفاوض على شروط الهزيمة.

لذا، هي في شكلها الحالي، حرب نظيفة، مثيرة، تعتمد تكتيكات "ذكية"، تتفادى إلحاق الكثير من الاضرار والخسائر المدنية، وأحيانا العسكرية، أي أنها تركز على تجريد العدو من أسلحته "الذكية"، أو تحييد تلك الاسلحة، مع الحرص الشديد على عدم قتل الكثير من ضباطه وجنوده وحتى خبرائه العسكريين، بخلاف ما كان عليه الحال في الحروب التي كانت تخاض في الأزمنة الماضية.

وهي، بهذا المعنى، الحرب المثالية، النموذجية، التي فرضها،لحسن الحظ، تطور أنظمة السلاح وتكنولوجياتها الحديثة، والتي جعلت المدنيين مجرد مراقبين، مشاهدين، محللين، بدلا من أن يكونوا جثثا وجرحى، وبدلا من أن تكون مدنهم وقراهم ومساكنهم ميداناً لإختبار إستراتيجيات "الارض المحروقة"، حسب تجربة الحملة العسكرية الروسية على سوريا حاليا، والتي تسلط نيرانها على المدنيين ومستشفياتهم ومستوصفاتهم وافران خبزهم ومدارس أطفالهم، فقط لكي تجبر المقاتلين على الفرار..في إستعادة حرفية لحملات وحروب القرون الوسطى وما قبلها.

الجبهة الاميركية الايرانية المفتوحة، تبدو، بلا أدنى شك، أكثر إلتزاماً بالمعايير الأخلاقية والإنسانية من تلك الحملة التي يجردها الجيش الروسي بكامل أسلحته التقليدية على الشعب السوري. ولا يرجع السبب الى التكوين الاميركي او الايراني، أو الى قيم الجانبين وقواعد عملهما، بل يعزى أساساً الى موازين القوى المختلة لصالح أحدهما، والى رغبتهما المتبادلة في خوض تلك التجربة الجديدة: حرب "بيضاء" غير ملوثة بالكثير من مشاهد الجثث والدماء والدمار، تستخدم فيها الأسلحة الاذكى، وهي حسب إتفاق جميع الخبراء العسكريين الطائرات المسيرة عن بعد، التي لا تعترف بالحدود ولا تخضع للقيود، ولا تشعل حرباً تقليدية شاملة، ولا تخرق وقفاً لاطلاق النار فُرض بقرارات دولية.

لكن السؤال الذي يطرح الان هو: هل يكفي ذلك الشكل من الحرب النظيفة، المستعرة الآن بين الاميركيين والايرانيين، على مختلف جبهات سوريا والعراق واليمن ولبنان وصولا الى الضاحية الجنوبية لبيروت، لكي يفرض على أحد طرفيها الاعتراف بالهزيمة وسحب أسلحته الذكية، والعودة الى طاولة التفاوض؟

المؤكد أن الطائرات المسيرة ليست الاسلحة الأذكى لدى الجانبين، والعقوبات ليست الاسلحة الأمضى.أما الصواريخ فهي من دون شك الاسلحة الاشد غباء. في الترسانتين، الكثير من أدوات الحرب الالكترونية التي لم تستخدم بعد، والتي لا يزال الوقت متاحاً لإختبار مدى فعاليتها وتأثيرها، في هزم العدو، وفي تجنب الخروج في حرب تقليدية، مستحيلة، وفق مختلف الحسابات والتقديرات، بين أميركا التي لم تنس تجربة غزو العراق، وبين إيران التي لا تزال تذكر جيداً ذلك الغزو.

الحرب الذكية التي تحتدم هذه الايام، وتتوسع تدريجياً في شمال بغداد وجنوب بيروت، ليست ذروة الصراع، بل ربما مجرد تمهيد لما هو أخطر. الانتخابات الاسرائيلية المقررة بعد 22 يوماً هي مؤشر أولي، أما الإختبار الأهم فسيكون في خريف العام المقبل عندما يحين موعد الانتخابات الرئاسية الاميركية..مع العلم بأن كثيرين في واشنطن وتل ابيب وطهران، لا يطيقون الانتظار حتى ذلك الحين، ويعتبرون ان الاشكال الحالية من المواجهة، هي مجرد لكمات متبادلة داخل حلبة محاطة بحشود من المتفرجين المتحمسين، لن تحسم الصراع ولن تنفع في تفادي الحرب التقليدية الشاملة.

الحرب الذكية في أوجها الآن، والأمل أن يظل طرفاها على هذا القدر من الذكاء..لأن الحرب الأخرى، إذا ما إشتعلت، سيبدو معها أن غزو العراق في العام 2003 كان مجرد نزهة.