حدث ذات مرة في سورية

أحمد عمر
السبت   2019/08/17

 لم تكن المرة الأولى التي يُداهَم فيها الحيّ الثائر، لكن القوات العسكرية حاصرته بمدرعاتها ومصفحاتها من الجهات الأربع هذه المرة، وحوّمت حوامة في الجهة الخامسة، وخارت بقرة في إحدى البيوت الطرفية، وسُمع صوت طلقة.

  سكان الحيّ من عشائر البدو، وهو في أقصى المدينة التي أطلق عليها الناشطون لقب عاصمة الثورة. ليس في الحيّ منزل إلا وتنقصه حاجة، المياه تتدفق إلى معظم أنابيبها سرقة وكذلك النور إلى بيوتها، الأبواب الخارجية حديدية ثقيلة، أجراسها مطارق على شكل قبضة حديدية تقرع باليد، كأنها صنعت عند حداد واحد. أكثر أبناء الحي طلاب أو عاطلون عن العمل، والمظاهرات تشتعل في الحيّ عصر كل يوم، وتستمر حتى في منتصف الليل بالأناشيد والهتاف للحرية، وهم شباب يتّصفون بالعناد والعنفوان. لم يكن في الحيّ سوى شهيد واحد مات تحت التعذيب، وبعض المعتقلين. كانوا يتظاهرون، ويراقبون الغرباء ويفحصون هويات العابرين، وينشدون.

 انتشر الجنود بسرعة في الحيّ في أنساق، يدقّون على الأبواب باباً باباً، ويطلبون الشبان. كانوا لطفاء هذه المرة. كان التفتيش سريعاً. قال الضابط لآباء الشبان وأمهاتهم مطمئنين بأن أبناءهم مدعوون إلى الفطور وسيعودون بعد ساعتين أو ثلاث، وأقسم على إن الدعوة للتعارف. جنود صارمون تحت الخوذات في الزوايا، يتلفّتون حولهم حذرين من الغدر، وأيديهم على بنادقهم الألية. صودرت بعض المسدسات، وعُثر على بندقية قديمة. أمر الضابط صاحب البندقية بالركوب مع الفتيان، أغمي على بعض النسوة، شتمت بعضهن الدولة والرئيس، النساء أشجع من الرجال بسبب الجهل بالواقع، بعض الجهل نعمة، سكت الضابط.

 خرج الفتيان من البيوت ووقفوا أمام الأبواب، في عيونهم ذعر شديد، سيزداد مع ابتعادهم عن حيّهم وأهلهم، ودع بعضهم أهله رافعين أذرعهم من غير تلويح. اقتيدوا في أرتال إلى باصات خضراء، ملؤوا سبعة من أصل عشرة باصات، ركبوا بانتظام عسكري، لمَ العجلة إلى الموت؟ تساءلوا: إلى أين سيأخذوننا، إلى تدمر، أم إلى الشام، أم إلى البرية من أجل الإعدام؟ تبعت الباصات الفارغة الباصات المليئة، توزع الجند على الباصات وبعضهم ركب المدرعات التي لحقت بالباصات.

  لم تطل الرحلة سوى دقائق، المحلات مقفلة، والشوارع خالية سوى من حطام النوافذ والحجارة المتناثرة. وقفت الباصات مترادفة أمام باب مقصف الضباط في وسط المدينة، فُتحت الأبواب. أمر الضابط الفتيان بالنزول فنزلوا، واصطفوا في رتل، طلب منهم أن يتفضلوا بالدخول، فتوجهوا إلى الصالة الكبيرة التي تزينها صور الرئيس، كان في زاويتها مجسم نصفي له. دعاهم إلى الجلوس فجلسوا إلى الموائد الموزعة في ترتيب وعدل. شموا رائحة اللحم المشوي. انتشر الجنود وأخذوا الزوايا والأركان وأحدقوا بالفتيان، وقف الضابط الذي لم يكن مسلحاً سوى بمسدس وقال: أهلا بكم، لقد دعاكم السيد الرئيس إلى الفطور! لكنه يعتذر عن الحضور.

 خرج عمال من مطبخ المقصف، يحملون صحافاً كثيرة، في كل صحفة سندويشة شاورما ساخنة، طال الوقت ساعة حتى وزعت الصحاف على المدعوين، كان في بعضها مقبلات. وزعت عليهم علب معدنية من الببسي الزرقاء، والشباب ينظرون متعجبين، لا ينطقون، وأفئدتهم هواء، قال الضابط: الآن تفضلوا.. كلوا.

 لم يأكل أحد، من سيشتهي الطعام وهو مقبل على الموت أو على المجهول؟

 ابتسم، وطمأنهم أن الطعام ليس به سمّ، وأكل لقمة من سندويشة أحد الفتية.

 إذا كانوا سيقتلونهم فهم قادرون على القتل، والموت بالسمّ أرحم من الموت بالرصاص، نظروا إلى بعضهم  البعض مترددين، بادر أحدهم إلى الأكل فتبعه آخرون، رائحة اللحم شهية، أكل الجميع وشربوا في صمت صارم. أكل الضابط أيضاً، هو الوحيد الذي أكل معهم، والجنود يراقبون من تحت الخوذ. 

  قال الضابط بعد أن انتهى الجميع من الأكل: إنهم لابد يريدون الدخول إلى التواليت، لمَ الخجل، فكلنا "يــ.." وذكر ذلك الفعل الذي نتحرّز من ذكره تأدبا، ونكني عنه كناية، فابتسم بعض الفتية، وأحسوا بأنهم متساوون مع الضابط في ذلك الفعل، وشكروه في سرائرهم، على تلك الهدية اللفظية الشجاعة، وانطلق كثيرون إلى المراحيض مسرعين، وانتشرت بعض الضحكات.

 أحضر الندل الشاي، فشربوا شاياً حلواً. استبشرت وجوه الفتيان، قال لهم الضابط إنّ طلبات ساعات الكهرباء والماء في البلدية ستنفّذ وتلبّى كلها في أسرع وقت، وإنهم سيطلقون سراح الفتيان المعتقلين، وإن فقيدهم سينعى ويسمّى شهيداً، وله كل حقوق الشهيد، وسكت ثم قال: إنهم أحرار، ويستطيعون الآن العودة إلى أهلهم. وكانت أجمل جملة سمعوها في حيواتهم كلها، بعد ذكر الفعل الذي يشترك كل البشر في فعله، وقال أيضاً: إن هناك هدية لكل واحد من السيد الرئيس، سيوزعها العسكري على الباب وهم خارجون. واعتذر على الطريقة الفظة للدعوة. سامحونا يا شباب.

 تسلّم كل فتى وهو يغادر مغلفاً، كان به ألف وخمسمائة ليرة، أي حوالي خمسة عشر دولاراً، وعادوا إلى بيوتهم في الباصات الخضراء مسرورين، سعداء، غير مصدقين بالنجاة، متذكرين ذلك الفعل الذي ذكره، والذي يشترك فيه البشر كلهم، كهدية لا تنسى.

لقد كتُب لهم عمر جديد.