بساط سحري للفقراء

محمد خير
الأحد   2019/07/07
عدم امتلاك "الفقير" سيارة لا يعني بقاءه في المنزل!
"اللي عنده عربية (سيارة)، بياخد الدعم مرة، واللي عنده عربيتين، بياخد الدعم مرتين، أما اللي معندوش عربية خالص، ما بياخدش الدعم ولا مرة".

للوهلة الأولى، تبدو الكلمات السابقة كما لو كانت شعاراً طبقياً يرفعه الفقراء، أو جزءاً من قصيدة لأحمد فؤاد نجم، تتكلم عن الفارق بين "مصر العِشة" و"مصر القصر"، لولا أن تلك العبارات، المنددة بأن الفقير "ما بياخدش الدعم ولا مرة"، ليست سوى جزء من دعاية حكومية تلفزيونية مكثفة، مهّدت لرفع الدعم عن البنزين، مبررة الإجراء بأن الفقراء، بما أنهم لا يمتلكون سيارات، فإنهم بالتالي، لا يستفيدون من دعم البنزين "خالص".

بالطبع، فإن ذلك المدخل المضحك لمعالجة مشكلة الدعم، استدعى سخرية مقابلة، مستوحاة ربما من تألق الممثل ذي الأصل المصري مينا مسعود، في دور "علاء الدين"، في الفيلم الخيالي الذي أنتجته "ديزني" مؤخراً. هكذا، تخيل الساخرون بساطاً سحرياً هائلاً يعتليه الفقراء ليذهبوا إلى أعمالهم ومدارسهم وشؤونهم، طالما أن الدعاية الحكومية التي استخدمت نموذج السيارة للتمييز، تناست أن عدم امتلاك "الفقير" سيارة لا يعني بقاءه في المنزل، بل استمرار لجوئه إلى وسائل المواصلات التي تعمل بالبنزين أيضاً، وتتأثر بارتفاع أسعاره، فتزيد تعرفة ركوبها. أما التأثير الأهم فيتركز في سيارات نقل السلع والبضائع والأغذية، والتي تنعكس عليها مباشرة زيادة أسعار البنزين وتترجم في ارتفاع أسعار الطعام، ومن ثم، أسعار كل شيء!

غير أنه سواء نجحت الدعاية التلفزيونية في إقناع المواطن بأهمية قرارات "ترشيد" الدعم، أم لم تنجح، فإن برنامج "الإصلاح" الاقتصادي المصري، تخطى منذ زمن مرحلة النقاش والأخذ والرد، وصار بالفعل في مراحله الأخيرة. فخلال العام الجاري، سيتحرر نهائياً سعر البنزين ويُعتمد التسعير التلقائي بحسب معطيات السوق. وخلال الأعوام الثلاثة المقبلة، سينتهي تماماً دعم الكهرباء.

وبذلك تكون مصر قد انتهت من تنفيذ "روشيتة" صندوق النقد المعهودة، بعدما انتهت بالفعل من تحرير العملة وهيكلة الدعم، فهل يأتي "الرخاء"؟.. الكلمة السحرية التي واظبت الحكومات المتعاقبة على مغازلة الناس بها، ممهدة لإجراءاتها الاقتصادية أو حتى مبررة بها اتفاقاتها السياسية، منذ أن استقبل السادات نيكسون، ونقل مصر من المعسكر الاشتراكي المتقشف إلى الحلم الغربي الباهر، حيث "التلفزيون حايلوّن، والعربيات هاتموّن، بدل البنزين برفان" كما تقول أغنية الشيخ إمام الشهيرة.

تقتضي الأمانة القول بأن وعد الرخاء غائب هذه المرة، والدعاية الحكومية تستخدم رسالة مزدوجة المعنى. فبعد استعراض المبالغ الهائلة التي تتطلبها موازنات الصحة والتعليم ورفع الحد الأدنى لأجور موظفي الدولة، وغيرها من أوجه الإنفاق، تقول الدعاية صراحة "كل الفلوس اللي هتتتوفر من ترشيد دعم المواد البترولية، هتتصرف على صحة، وتعليم، وتكافؤ وحماية اجتماعية، ومعاشات وزيادة مرتبات، يعني خدمات يحس بيها المواطن اللي اتحمل كتير". لكن مقارنة بين المبلغ الذي يوفره خفض دعم البنزين، وهو 37 مليار جنيه (2 مليار دولار)، وتكلفة بند واحد من بنود الإنفاق مثل رفع أجور الموظفين (60 مليار جنيه -3.6 مليار دولار)، يبيّن صراحة أن خفض الدعم لن يحقق الأثر الإيجابي الهائل في الاقتصاد، وهو ما توضحه الرسالة المزدوجة للدعاية (كل ما يتوفر .. سوف ينفق في..). رسالة يمكن قراءتها على أنها شرح لضرورة الإجراء، أو قراءتها على أنها تعني: لا تنتظر الكثير من ذلك الإجراء، فكل ما سنوفّره سننفقه.

غير أن المسكوت عنه في الدعاية هو أن خفض الدعم هو أحد البنود الصارمة للقرض الذي حصلت عليه مصر من صندوق النقد الدولي، قبل سنوات ثلاث، بقيمة 12 مليار دولار تُسدد على 6 شرائح، وإن قرض الصندوق مجرد جزء من دين خارجي أكبر لامس حدود المئة مليار دولار، تلتهم خدمته وخدمة فوائده معظم الموازنة المصرية. بينما تنفذ مصر، في رأي خبراء، إصلاحاً ماليا (يعتمد على تسديد الأرقام ونقل هذا البند إلى ذلك)، وليس إصلاحاً اقتصادياً يسعى إلى تغيير جذري في طبيعة الاقتصاد نفسه. وأياً كان، ورغم جهود إعادة توجيه الدعم إلى الفئات الأشد فقراً ورفع أجور الموظفين، فإن النظرة الحكومية "لمعنى الفقر" تثير القلق، إذا كانت، بحسب دعايتها المتلفزة، ترى أن مجرد امتلاك سيارة – من دون تحديد نوعها- يخرج بالمرء من دائرة الرأفة الحكومية، فيحق للطبقة الوسطى أن تتحسس أعناقها.