مصرع الرئيس وموت الجماعة

ساطع نور الدين
الخميس   2019/06/20
دُفن الرئيس السابق في السر، من دون جنازة، وشيع معه تنظيم، جماعة كانت مهابة ومرهوبة، لكنه تبين أنها كانت أشبه بخُرافة، إصطنعها العسكر العربي وضخّمها لكي يبني عليها مشروعاً للسلطة وللاستبداد، قبل أن تصبح إسرائيل هي الذريعة، وهي مصدر الشرعية.

الحكاية بدأت في مصر، بداية متواضعة، وإنتهت في مصر، نهاية أشد تواضعاً. الجماعة التي تأسست في عشرينات القرن الماضي، وتقلبت بين العمل الإجتماعي، الدعوي، وبين العمل السياسي، لم تصل يوماً الى عتبة السلطة المصرية، كانت تقترب بين الحين والآخر من فنائها الخلفي، تعمل في السر، ما لم يكن يستوجب السرية أبدا. كانت متهمة على الدوام بأنها ردة مصرية على حركة النهضة التي شهدتها مصر في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وكان هاجسها الدائم دفع هذا الاتهام وتفنيده، من دون نجاح يذكر، لأن المجتمع إختار الانماط السائدة في تلك الفترة من الحداثة، لاسيما في مجال التعليم والثقافة والفن، وحقوق المرأة طبعا. 

كانت الجماعة منافية لذلك الخيار، متناقضة معه، متصارعة مع رعاته الذين ركبوا تلك الموجة من الحداثة، لكي يكسبوا الشرعية الدولية، لأنها لم تكن قادرة على الدخول في مواجهة سياسية مع سلطة تقاتل إسرائيل، وتصارع الغرب. ولا تحفظ الذاكرة الوطنية المصرية لتلك الجماعة بالتحديد أي نشاط سياسي أو أمني جدي يستحق الاستنفار او التنبه الى ذلك الخطر المزعوم، لكنها تحتفظ بفرضية راسخة، لم تثبت يوماً صحتها، مفادها أن التنظيمات الجهادية الاسلامية، التي ضربت مصر ولا تزال، هي مجرد أذرع إخوانية خفية، وليست إنشقاقات جذرية عن الجماعة الأم المتهمة من قبل "الجهاديين الجدد" بالقعود والخنوع والاستسلام.

والمفارقة أن تلك الفرضية بالذات ساهمت في إنتاج الخرافة، وباتت سيرة الجماعة، و"تنظيمها الدولي" السري، الذي كان يعرف الجمهور العادي قيادته وأعضاءه وأدبياته وحتى حجم أمواله وممتلكاته، أشبه بأممية إسلامية مهمتها إحياء الخلافة، ونشر سلطانها في مختلف أنحاء العالم الاسلامي.. مع العلم أن ذلك التنظيم، وحسب إعترافات شيوخه الكبار، كان مجرد هيئة تنسيق لم تفلح يوماً في صياغة نص سياسي موحد، ولا في إصدار إجتهاد واحد، أو في معالجة خلاف واحد بين اعضائه الموزعين على بلدان عربية واسلامية متناحرة في ما بينها أكثر من تناحرها مع أعداء الأمة.

كان البعث أقوى وأفعل من الجماعة، وكانت الناصرية أذكى وأهم بما لا يقاس. وكانت الشيوعية خارج المقارنة تماما مع تلك المنظمة التي لطالما إفتقرت الى التنظيم، ولم تكسب سمعتها وحتى رصيدها الشعبي إلا نتيجة مبالغات أجهزة السلطة أولا، ثم مغامرات بعض أفراد الجماعة الذين خرجوا على الاجماع المزعوم، وإرتكبوا أخطاء سياسية وأمنية كانت قاتلة، كما ثبت في مصر تحديداً، وفي سوريا لاحقا، من دون ان يمتد ذلك السلوك الى دول المغرب او دول الخليج التي إكتشفت مؤخرا الحاجة الى إستثمار تلك الخرافة.

كان الربيع العربي فاضحاً للجماعة، مثلما كان قاضياً طبعاً على جميع البنى السياسية العربية. في مصر كان الاخوان خارج الثورة، لأنهم لم يكونوا غالبية أولا، ولأن خطاب الثورة لا يعنيهم ولا يشبههم حتى. ثم كان الانخراط في العمل السياسي، بمثابة عودة من التاريخ، فرصة لكسب الجمهور. لم تكن صدفة الوصول الى السلطة تخطر في بال أحد منهم. ولم تكن الديموقراطية على جدول أعمالهم. ولم تكن الانتخابات الرئاسية خطتهم المعدة سلفاً. الرغبة الشعبية الواسعة بالنيل من النظام، وضعتهم في الرئاسة، وفي مهمة تشكيل رأي عام يقبل ببقائهم في الحكم.

العسكر كان بالمرصاد، وكانت الخرافة سهلة الاستخدام، وكانت التصفية الجسدية وسيلة مدبرة ومقررة، ومتاحة نتيجة سوء السلوك وسوء الخطاب وسوء التدبير من تلك الجماعة الآتية الى قمة السلطة من ما يشبه العدم، من دون الخضوع لاختبارات الاهلية التنظيمية على الاقل. خلال أقل من عام سقط الالاف في الشارع برصاص العسكر، ثم سقط المئات في السجون بأحكام القضاء وأحقاد الأمن، وما زالوا يتساقطون. 

الرئيس محمد مرسي هو واحد من هؤلاء السجناء الاموات، الذين يقدر عددهم بأكثر من 800 قتيل: آلة إنتاج الخرافة ما زالت تعمل، وآلة إبتكار الصدفة ما زالت تدور. العلة كانت في العسكر وستبقى. الجماعة كانت في التاريخ وستبقى. والصراع بين النظام وبين "الجهاديين الجدد" الذين صنعهم العسكر في المعتقلات والمحاكم، وورثوا الجماعة منذ سبعينات القرن الماضي، يمكن أن يستمر حتى سبعينات القرن الحالي، ويزود الجيش والاجهزة الامنية ب"شرعية" لم يعد "الاخوان المسلمون" قادرين على توفيرها لهم.

مصرع مرسي على هذا النحو المأساوي، يسدل الستارعلى ذلك الفصل المفتعل. هو يراكم حزناً إضافياً على مصر، التي لم تحفظ للموت حرمة، ولم تحترم حق الحياة التي ولدتها تجربة ديموقراطية خاطفة، تتخطى الرئيس المعزول والجماعة الراحلة.. ولم تؤسس لتقاليد او حتى لمظاهر دولة.

الرئيس السابق، والاول في تاريخ مصر الذي يخرج من صناديق الاقتراع، يُقتل بإنقلاب عسكري تعمد تعذيبه طوال ست سنوات في السجن ثم في المحكمة: كأن العسكر المصري يحكم بمفعول رجعي، كأن مصر تعود بثبات.. الى الوراء.