إدلب تُباد: ماذا بعد؟

عمر قدور
السبت   2019/12/21
يتواصل القصف الروسي والأسدي على ريف إدلب، خاصة المناطق اللازمة للسيطرة على الطريق الدولي دمشق-حلب، وتلك التي يقع الطريق في مرماها نارياً. الصور المهولة القادمة من هناك تترجم ما يريده الأسد وموسكو، فالمطلوب منطقة مدمَّرة كلياً، خالية من السكان نهائياً وغير قابلة لعودتهم والعيش فيها. استهداف قوافل اللاجئين من القصف في اتجاه الشمال يكاد يكون تعبيراً مألوفاً عن الحقد الأسدي على الأهالي، وعن التوق إلى رؤيتهم جميعاً قتلى، وذلك لا يثير غضب أية جهة دولية أو إقليمية لأنها تتعاطى على قاعدة: القتيل السوري أقل كلفة من نظيره اللاجئ.

إدلب تُباد، كتب هذا من قبل سوريون، وضعوه وسماً على وسائل التواصل الاجتماعي، توجه بعضهم بالاستغاثة إلى المجتمع الدولي؛ لم يغيّر ذلك من القدر الذي تسوقه موازين قوى دولية وإقليمية وتتقدم بموجبه المجزرة هنا وهناك. يُصادف أن يكون الهجوم الأخير على ريف إدلب بعد مرور ثلاث سنوات على استعادة الأسد سيطرته على الأحياء الشرقية في مدينة حلب، ولم تكن تلك الأحياء هي المنطقة الأولى التي يستعيد السيطرة عليها، فقد استعاد بقوة ميليشيات حزب الله ونظيراتها الشيعية مناطق مثل القصير ويبرود وأجزاء من الغوطة، إلا أن حلب كان لها دلالة مختلفة وبها ستستهل موسكو انتصاراتها الأهم منذ تدخلها العسكري المباشر قبل 15 خمسة عشر شهراً من ذلك التاريخ.

لدينا العديد من التواريخ المهمة الأخرى، فبعد التدخل الروسي بشهرين أسقطت أنقرة طائرة سوخوي على حدودها، ولم تجد مساندة من حلف الناتو ما فُهم على أنه موافقة غربية صريحة على ذلك التدخل. اقتحام حلب نوع من التأكيد لمن لم يفهم تلك الرسالة المبكرة، وهو تأكيد يبقى صالحاً للذين يرون توريطاً لموسكو في سوريا، فحتى إذا صحّت الفرضية لن تصحّ على منوال المثال الأفغاني الذي يتحاشاه الجميع. قبل ذلك التاريخ، كنا شهدنا في منتصف أيلول 2013 اتفاقاً أمريكياً-روسياً على تدمير ترسانة الأسد من السلاح الكيماوي، الاتفاق الذي طوى عملياً صفحة الآمال أو الأوهام المتعلقة بتدخل دولي إنساني في سوريا، وقبله بنحو سنة كانت الإمدادات قد قُطعت عن الفصائل التي باتت تشكّل تهديداً لسلطة الأسد في العاصمة دمشق.

لدينا، لمن يريد إثبات ذلك، محطات يصعب تجاهلها ليبرهن على عدم اكتراث العالم بالمقتلة التي ينفّذها الأسد. المحطات المذكورة سابقاً توضح التدرج من استبعاد الحل العسكري في خريف 2012، مروراً بالاتفاق الضمني على بقاء بشار وفق اتفاق الكيماوي، وصولاً إلى الموافقة الغربية على أن تتولى موسكو "بأسلوبها الوحشي المختبَر سابقاً في غروزني" إنهاء ما يُنظر إليه كفوضى سلاح وهيمنة إسلاميين عليه. مرة أخرى، لا يكترث قادة الغرب بآلاف الضحايا المدنيين الجدد، بل يفضّلون الضحية التي تتحمل موسكو والأسد مسؤولية إبادتها على اللاجئ الذي قد يتحمل الغرب مسؤولية ما إزاءه.

تكرار الكلام واجتراره عن لامبالاة العالم هو منذ سنوات بمثابة شكوى سورية مزمنة، تنتعش وتقوى مع كل موسم من المجازر، وتتوارى قليلاً في فترات الهدوء على أمل ألا يكون عابراً. هي شكوى لا تتوخى تأثيراً، لأنها في الأصل يائسة ولديها كافة مقومات اليأس، وبهذا المعنى لا مفعول لها سوى تعزيز وتعميق الشعور العام بالمظلومية السورية، ولا شيء كبناء المظلومية على هذا النحو يمنح السلوى لمن يعلنون عجزهم عن حق، أو عن سوء تقدير لإمكانياتهم مهما بلغت من التواضع.

لا بأس بالتذكير بأن الشكوى بدأت منذ إقدام قوات الأسد وشبيحته على قتل المتظاهرين السلميين، ثم تفاقمت مع قصفه الوحشي المناطق الخارجة عن سيطرته، أي أن عمرها مطابق تقريباً لانطلاق الثورة السورية. تأكيد ما هو مؤكد من عدم اكتراث العالم لا يخلو من وظيفة أخرى فوق تعزيز المظلومية، فالمعارضة طالما خرجت لتتشكى مثل أي سوري غير منخرط في العمل السياسي والاتصالات الخارجية، لتبرر لنفسها الفشل الذريع في قراءة الأحداث، أو لتبرر ارتهانها لجهات خارجية منخرطة في المقتلة السورية على نحو أو آخر.

لم تكن لدينا قبل انطلاق الثورة السورية سياسات دولية ناصعة أخلاقياً ليُبنى عليها هذا القدر من حسن الظن ثم الخيبة، ومبعث الأمل الوحيد كان أن العالم ربما وصل إلى عتبة من الحساسية الإنسانية والأخلاقية لا يحتمل معها مشاريع إبادة كالتي حصلت من قبل. نفترض أن هذا الوهم تبدد مبكراً، ونفترض مع ذلك أن أية ثورة قد تحتاج حقاً إلى دعم خارجي، وإلى أن تنافس السلطة في هذا المضمار، لكن الارتهان لذلك الدعم لا يؤدي سوى إلى تغليب مصالح الجهات الداعمة. ولعل التفافة أنقرة بعد درس إسقاطها الطائرة الروسية أفضل مثال على ذلك، فالسلطات التركية أعادت تموضعها مع الجار الروسي في سوريا بالتصويب على الملف الكردي كهدف بديل عما كانت تعلنه من عداء للأسد، بينما مضت في مسار أستانة المساند للمهمة الروسية والتي رأينا ونرى تنفيذها بأقصى بربرية. 

لن يكون تكهناً يائساً القول بأن السياسات الدولية لن تتغير ما لم تقتضي مصالح القوى المؤثرة، مع التذكير بانطلاق الثورات العربية "ومنها الثورة السورية" من دون تنسيق مع تلك القوى أو رغبة منها. بمعنى أن التعويل على الذين لم يكونوا شركاء، ولا تقتضي مصلحتهم أن يكونوا كذلك، لا محل له في عالم السياسة. الكارثة المرادفة للإبادة، التي نفّذها وينفّذها الأسد وحلفاؤه، كانت في عدم التفكير في أي وقت لتلافيها، أو للتقليل من ضحاياها، ينطبق هذا خاصة في السنوات المنقضية من عمر التدخل الروسي، حيث انكشفت معه التوجهات الدولية لتتكيف معها نظيرتها الإقليمية.

السؤال الذي يطرح نفسه، لمن لا يريد التهرب من المسؤولية، ما الذي فعله السوريون لمواجهة واقع مفضوح أو على الأقل للحدّ من الضحايا؟ ما الذي فعله سوريو الثورة، وهم يراقبون القوى الدولية والإقليمية تركّب على مزاجها المعارضة التي ينبغي أن تمثّلهم؟ مع افتضاح ارتهان المعارضة منذ سنوات، ما الذي فعله سوريو الثورة لسحب الشرعية منها وتولي المسؤولية بدلاً عنها؟ وهل يلزم التذكير بأن كتابة بوست أو تغريدة على وسائل التواصل الاجتماعي، سواء لهجاء المجتمع الدولي أو المعارضة، ليست ممارسة سياسية، فالعالم لم يعد يكترث حتى بتغريدات ترامب وهو رئيس القوة الأعظم.